عبد الله المصري: الموسيقى تخصص وليست هواية فقط

فاتن حموي

كان عبد الله المصري ـ وهو في السادسة من عمره ـ يختلي بنفسه في غرفة الجلوس في منزله الجبلي، ويفتح العنان لصوته كي يغني ويدربك على حافة الكنبة الخشبية. «كانت فكرة واحدة تداعب تفكيري: أنّ صوتي أجمل ممّن كنت أغني لهم»، وبعد سنة أو أكثر شارك رقصاً في إحدى الحفلات المدرسية. «كنت أراقب التلاميذ أثناء التدريبات وكان الأستاذ يمنعني من التواجد بسبب صغر سني. كانت الرقصة خاصة بالصفوف العليا، إلا أنني التقطت الحركات ورآني الأستاذ أرقص وحيداً في إحدى الزوايا فاختارني لأكون الراقص السوليست في الحفل». وتوالت الإشارات نحو مواهب الطفل الفنية، إلى أن سافر شقيقه إلى روسيا، كانت حصيلة السفر بالنسبة إلى الطفل مجموعة أسطوانات للموسيقى الكلاسيكية يرسلها المغترب إلى شقيقه الأصغر، وكانت هدية والده هي الأبرز والأغلى للطفل الذي يرسم طريقه الفنية. الهدية كانت غيتاراً خشبياً من صنع الوالد. علّم الطفل نفسه بنفسه باحثاً عن نوتات في مخيّلته ومخزونه الفني الفطري والذي بدأ يغذّيه عبر الموسيقى الكلاسيكية، وحان الوقت لتشذيب الموهبة بالدرس. اندلعت الحرب اللبنانية، وإثر المجزرة التي حصلت في قريته هجرتها العائلة. «كنت أدرس لدى أستاذ البيانو في حمانا عيسى سكاف، وحاولت الانضمام إلى المعــــهد الوطني العالي للموسيقى، لكن في كل مرة يقال لي إنني تأخــرت عن مواعيد التسجيل لأنها تخضع لتغييرات عدّة. وطلب مني الأستاذ جوزيف أشخانيان أن أدرس تحت إدارته في المركز الثـــقافي الإسباني في بيروت، وهذا ما حصل».
معالم موسيقية
بعد ذلك، يضيف ابن «صليما»، في حديث لـ «السفير» أنّه ساهم في إنشاء فرقة موسيقية «فرقة الجبل» تضمه إلى جانب بسام ضو، ومروان ضو، وفيصل القنطار، وناجي هلال، وتميم هلال، وسلام المصري، وصادق ملاعب وغيرهم. «تأثرنا بفرقة «الميادين» وكانت «فرقة الجبل» وأطلقنا مجموعة من الأغاني الخاصة بالفرقة، معظمها من تلحيني وتوزيعي، وسجّلنا الأغاني في استديو المبدع زياد الرحباني. كانت المرة الأولى التي يسجّل فيها الرحباني أغاني في الاستديو الخاص به، وشارك معنا عزفاً على البيانو خلال التسجيلات».
بعد معاناة طويلة استمرت أكثر من سنتين لتلمّس مستقبل واضح المعالم موسيقياً، نال المصري منحة دراسية لمتابعة دراسته الموسيقية في موسكو. «حصلت على المنحة بعد قدوم لجنة من موسكو إلى لبنان. استمعت اللجنة إلى مؤلفاتي للأوركسترا وغيرها، وكانت الموافقة. انضممت إلى كونسرفاتوار تشايكوفسكي بعد خضوعي لامتحان قدرات. درست مدة أربع سنوات في الكلية الأكاديمية للكونسرفاتوار، ونلت شهادة البكالوريوس، وبعد ذلك درست خمس سنوات في المعهد العالي للموسيقى ونلت شهادة الماجستير. ألّفت مجموعة عظيمة من مؤلفات الحجرة وانتهيت بالسيمفونية الأولى. كنت الوحيد غير الروسي بين الطلاب الذين يدرسون التأليف الموسيقي، ونلت منحة لمتابعة الدكتوراه في التأليف الموسيقي في الكونسرفاتوار، وحصلت على أعلى مؤهّل علمي في التأليف الموسيقي في الكونسرفاتوار في العام 1994».
يرى المصري أنّه منذ تشكيل وعيه الموسيقي يكتب الموسيقى التي يحبّها ويفضّلها، «أحب الموسيقيين وأتأثّر بموسيقاهم، لكن هذا التأثّر لم يكن له أثر على نمطي في التأليف الموسيقي. كوّنت شخصيتي الموسيقية بطريقة مختلفة وبعذاب كبير، وأسعى دوماً إلى أن يكون للموسيقى عناصر مختلفة وروحية ودراما وألم. ومنذ بدأت بكتابة الموسيقى الكلاسيكية حاولت ابتكار شخصيتي الموسيقية وبالتالي الحفاظ عليها».
يقول المصري إنّه يرفض الأسلوب الوصولي رفضاً قاطعاً في كتابة الموسيقى. «لم ولن أكتب الموسيقى لإرضاء أحد أو لإثارة إعجاب أحدهم. أكتب الموسيقى التي أراها وأشعر بها. وبعد ما يقارب الثلاثين عاماً على كتابة سوناتا الكمان (كتبها عام 1985) بات اليوم يعزف في أهم الصروح الفنية على امتداد العالم. حين كتبت السوناتا انهالت عليّ الانتقادات من زملائي الموسيقيين من كل حدب وصوب، ومن لبنان بالتحديد، قيل لي إنّ الموسيقى غير مفهومة ولن تنفعني، ولم أبدّل ولم أغيّر في مفهومي لما أكتبه، وقد تركت موسيقاي أثراً كبيراً على المستمعين لا سيما في كونسرفاتوار تشايكوفسكي، ومؤلفاتي كانت تُتْرَك لختام الاحتفالات إيماناً بأهميتها».
حفلات الأوركسترا
مساء الجمعة الماضي، عزفت الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي وبمشاركة الفنان رامي مرسيل خليفة سولو على البيانو، كونشرتو البيانو (35 دقيقة) للمصري، «كتبت الكونشرتو في العام 2003 وأهديته للمبدع رامي خليفة، وسبق أن ّتمّ تسجيله في موسكو مع أوركسترا غلوباليس السيمفونية. وقُدّم للمرة الأولى في لبنان. «كنت خائفاً ومرتبكاً وأنا أستمع إلى موسيقاي. لطالما اعتبرت أن الموسيقى هي النجمة. غمرني الفرح والحماسة وسعدت بدرع الثقافة التي منحني إياها الوزير روني عريجي. كان الحفل رائعاً لا سيما أنّ الأوركسترا عزفت أيضاً كونشرتو العود الثالث للرائع مرسيل خليفة مع العازف السوري كنان أضناوي (سولو). وقدّم رامي خليفة مقطوعة مميزة من تأليفه، «أرى إيجابية كبيرة في حفلات الأوركسترا الشرق عربية بقيادة المايسترو أندريه الحاج، وكذلك الأوركسترا الفيلهارمونية بقيادة بعلبكي. هي حفلات ممتازة في العمق والحضور ذو ذائقة مميزة ورائع. أعتبر هذه الحفلات مبشّرا إيجابيا للوجه الثقافي للبنان على الرغم من كل المشاكل الموجودة فيه».
يعلن المصري أنّه يعمل منذ سنوات على السيمفونية الثالثة. «أنهيت الجزء الكبير منها، ومن المقرّر أن أضع اللمسات الأخيرة عليها في نهاية الصيف»، وهو قدّم في العام 2014 «مطر.. قصيد سمفوني» من تأليفه، عن نص الشاعر العراقي بدر شاكر السياب «أنشودة المطر»، وأداء الفنانة أميمة الخليل.
نسأل المصري المقيم في الكويت حيث يدرّس التأليف الموسيقي في جامعاتها ويتبوأ مسؤوليات موسيقية عدّة عن إمكانية العودة إلى لبنان، فيجيب: «لا إمكانية لوظيفة أعتبرها لائقة بي مالياً ومعنوياً لأكتب وأنتج أعمالي. وآمل أن ينتقل النظام التعليمي الموسيقي في لبنان إلى نمط آخر وسياسة مختلفة، وأن يتحوّل المعهد العالي للموسيقى إلى جامعة. أرى الموسيقى تخصصاً وليست قائمة فقط على الهواية».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى