‘ميريديا وقصائد أخرى’.. مؤامرة بين عراقي وأرجنتيني وفرنسي

محمد الحمامصي

هذا الكتاب المعنون بـ “ميريديا وقصائد أخرى” بترجمة الكاتب والروائي العراقي جبار ياسين هو مختارات لما كتبه بالفرنسية شاعر عربي هو نفسه جبار ياسين كترجمة لشاعر مكسيكي يدعى كارلـوس أفيلا يكتب بالاسبانية، ومن ثمة اعادة كتابته بالعربية، ليصدر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة كاشفا عن هوية الشاعر المكسيكي كارلوس أفيلا الذي نشر كثيرًا من القصائد والأعمال والنصوص بالفرنسية والأسبانية؛ حيث لا وجـود لهذا الشاعر في المكسيك أصلًا، وهـو ليس إلا الشاعر العراقي جبار ياسين “المترجم” الذي استمر من فترات طويلة يكتب بهذا الاسم في الصحف والمجلات المكسيكية والأسبانية عموما والفرنسية وذلك بتواطؤ من الكاتب الأرجنتيني العالمي المعروف ألبرتو مانغويل الذي كتب بعض النصوص باسم الشاعر ايضا، وشعراء عديدين.

في ختام المختارات وتحت عنوان “ما بعد القراءة” نكتشف إن “هذا الكتاب هو ثمرة مؤامرة “اقرأ مغامرة أيضا” أدبية بين الكاتب العراقي جبار ياسين والكاتب الارجنتيني البرتو مانغويل والمترجم الفرنسي – المكسيكي فيليب اوليه لبرن. كل منهم أسهم بطريقة وأخرى في إخراج هذا المتن بالطريقة التي سيجدها القارئ في الصفحات التالية.

• تفاصيل الحكاية

ثم يأتي سرد ما جرى لتتطور الأمور إلى خلق شخصية الشاعر المكسيكي كارلـوس أفيلا “في خريف العام 2005 وبعد ترجمة أحد كتبه للأسبانية (القارئ البغدادي) مدريد. دار نشر سيرويلا، دعي جبار ياسين للمشاركة في معرض الكتاب في مدينة كوالدالاخار شمال العاصمة مكسيكو، وهو المعرض الأهم للكتاب في أميركا اللاتينية والذي كان يقام كل عام برعاية كاتبين مهمين في القارة والعالم وهما الكولمبي جابرييل جارسيا ماركيز، والمكسيكي كارلوس فوينتس.

من ثمرات المعرض الشخصية للكاتب العراقي، انبثاق صداقة، تعمقت في السنوات التالية، بين الكاتب الكولمبي الأشهر والكاتب العراقي. اقترح ماركيز وفوينتس مقعد الأستاذية في جامعة كوالدا لاخارا والذي يحمل اسم الصديق المشترك للثلاثة، الكاتب الأرجنتيني الراحل خوليو كورتزار، والذي قضى أغلب سنوات حياته في أوروبا: ولد في بروكسل 1914 وتوفي في باريس 1984”.

• مأساة حضارتين

بعد شهور عاد جبار ياسين ليمكث شهورا، يلقي سلسلة من المحاضرات الماجسترال في جامعة كوالدالاخارا، وقد نشرت بعضها بالاسبانية في كتاب تحت عنوان “ثقافات منسية”. وخلال إقامات متعددة، بين ذهاب وإياب لم ينقطع لثلاث سنوات، دخلت المكسيك بشعبها وجغرافيتها ومعمارها وذاكرتها المجروحة بالتحطيم والإبادة اللذين صبهما الغزاة الإسبان على حضاراتها، في يوميات ذاكرة العراقي جبار ياسين.

التشابه الآركيولوجي الإعجازي والعلاقة التي تربط المكسيكي بفكرتي الموت والخلود التاركة لبصماتها في تفاصيل الحياة والعلاقة المضطربة مع السماء وقدسية الأولياء والشهداء، المكسيك اليومي والآخر الأسطوري المتواشج مع اليومي والأسطوري العراقي، سواء في التاريخ القديم او الحاضر، سحر الكاتب وشده الى ارض تلك البلاد البركانية التي شدت اليها، بسحرها التراجيدي وعظمة شعبها قبله الكثيرين. فبين اندثار بابل وتحطيم بغداد واندثار مكسيكو وتحطيم تينوكيتلان، خيط رفيع متشابه في اللون القاتم ورائحة الدم والطعم المر للهزيمة والمنفى.

ساح العراقي في المكسيك من شمالها لجنوبها، في أحياء فقيرة وأخرى ثرية، في مدن حدائقها تشبه حدائق بيوت بغداد والبصرة، تجول في أحياء الصفيح في بويبلا واخترق الغابات، ترافقه في الطريق صقور الكندور والببغاوات على أشجار الخاغواي. أقام في العاصمة مكسيكو وتنزه في الكونديزا وتلوكان في الصباحات.

أطل لحظة غروب الشمس، على بيت هرنان كورتس، المحطم الكبير الذي لا نظير له، البيت الذي غزته الأعشاب ونفذت الأدغال بين ثغرات جدرانه. حزمته أواصر حب وصداقات كثيرة مع مكسيكيين من مختلف الفئات والطبقات، كتابا وكاتبات، شعراء وشاعرات، قراء وقارئات. احتظنته المكسيك بأمومة وأبوة معا، كواحد من مواطنيها ومنحته وساما واقترحت عليه المواطنة المكسيكية والاقامة الدائمة في البلاد.

لكنه عاد إلى منفاه الفرنسي الذي اعتاده منذ شبابه الأول. إلى حديقته وصديقة حياته، التي صارت عذرا للإقامة الفرنسية، بعد عودته الخائبة للعراق في ربيع العام 2003. لم تتركه الذاكرة المكسيكية، الطرية بعد والتي اخترقت كيانه العاطفي، فكتب قصصا كثيرة، نفذت واحدة منها لكتاب بالأسبانية، ضم أجمل القصص التي خطها كتاب أجانب عن العاصمة مكسيكو. جعل من المكسيك وتاريخها ويومياتها فضاء لها، جاعلا من منفى الحضارات المكسيكية وتدميرها على إيقاع ضرب الطبول، رديفا للمنفى الحضاري العراقي منذ ألفي عام لحظة سقوط بابل الأخير وتدميرها بصمت.

• العراق المكسيك

في العام 2010، وبنفحة بركانية من الحنين المقسم على ثغرين بعيدين، كتب ياسين هذه النصوص الشعرية القصيرة، متقمصا شخصية شاعر مكسيكي بعمره من ميريدا، المدينة البحرية في جنوب المكسيك، ليس بعيدا من أطلال جيتومال، أشهر مدن حضارة المايا الرفيعة، حيث مازالت الأهرامات الباهرة تستقبل النور وساحات لعبة الصولجان قائمة بأحجارها التي تشبه المرايا تحت شمس الجنوب اللاهبة، إذ تتنزه الآن، سحلية الأغوانة العملاقة تحت ظلال الغابة الإستوائية.

استهوت الفكرة صديقه الارجنتيني البرتو مينغل كدعابة أدبية في الانتحال الكاذب ولعبة الاقنعة، فشجعه على المواصلة بحماس واعدا الكتابة عنها كتجربة استثنائية. في نفس الوقت، فإن صديقه الآخر فيليب اوليييه لبرن، الذي يقيم في المكسيك منذ ثلاثين عاما وتزوج بمكسيكية وترجم إلى الفرنسية خلاصة الشعر المكسيكي في انطولوجيا “مائة عام من شعر المكسيك” ساهم معه، في خلطة ملونة، تشبه الكولاج، في فبركة حياة شاعر خليط من سير شعراء حقيقيين، لم تعرفه الحياة الادبية المكسيكية أبدا.

قبل أن تأخذ هذه النصوص حيزها في هذا الكتاب الصغير”ميريديا وقصائد أخرى” الصادر هذا الأسبوع، نشرت بعضها كنصوص مترجمة عن الأسبانية في مجلة “نزوى” العمانية. وقبلها بسنوات نشرت نصوص أخرى تحمل اسم الشاعر في موقع “كيكا” الأدبي في لندن مع تخطيط مفترض لبورتيه الشاعر.

هكذا يأتي هذا الكتاب عبارة عن مختارات لما كتبه بالفرنسية شاعر عربي كترجمة لشاعر مكسيكي يكتب بالاسبانية ومن ثمة إعادة كتابته بالعربية. في هذا الاختلاط اللغوي فإن الأدب ومتونه، يبقى هو الأساس الذي يقوم عليه سرد خلاصة العالم، سواء في بابل أو مكسيكو أو سقارة أو دمشق أو تدمر اليوم أو بغداد وتمبكتو. فالأدب أعاد دائما بنيان العالم المهدم كل يوم في لعبة التاريخ القاتلة.

ومن المتوقع أن يتم الكشف عن هوية الشاعر في سوق الشعر الفرنسي في أمسية فرنسية أسبانية أوروبية مخصصة لذلك في السوق يحضرها السفير المكسيكي بباريس وجموع من المهتمين. حيث كان الشاعر جبار ياسين قد تلقى في بداية السنة دعوة شعرية من سوق الشعر للاحتفاء بتجربته الفريدة، فما كان من الكاتب الحقيقي والعارفين بالشاعر والمتابعين أو ممن احتفى به سابقا كألبرتو مانغويل إلا أنهم قرروا الكشف عن شخصية الشاعر في هذه الفاعلية الإبداعية الكبيرة.

ومن المتوقع أن يصدر الديوان نفسه مع نهاية السنة في كل من المكسيك وكندا، وأسبانيا وفرنسا بالاتفاق مع الكاتب ومؤسسة أروقـة.

وقد صرح القاص اليمني عبدالعظيم الصلوي المدير التنفيذي للمؤسسة أن إصدار هذا العمل جاء في وقته المناسب للكشف عن شخصية شاعر اعتقده الجميع في العالم شاعرًا موجـودًا وتداولوا قصائده على نحو واسع، إذ نشرت له ترجمات عديدة في المواقع العربية والمجلات المتخصصة منها موقع كيكا الأدبي، وقد نشرت له مجلة “نزوى” العمانية من فترة مختارات شعرية في ملف خاص.

• من قصائد المختارات:

القرص الشمسي

كان يشرب الكاكاو بالماء كل صباح

ويفطر بخبز الذرة الزرقاء

الرجل الذي رأى القرص الشمسي

محارب المايا

الرجل الذي لم يفارقه الرمح

سار خلف قطيع الخنازير البرية

مضى الى قلب الغابة

سار بين أدغال لم ترها عيني كنش اهو

شم عفونة الغاب في الأغصان الميتة.

بينما كانت الأفاعي الصفراء تتدلى

وأصوات طيور تعطي النذير لصغارها

لم تترك عينيه قطيع الخنازير البرية

اضلافها كانت تحرث أرض الغابة

وترفع الأوراق الميتة للهواء

بما يكفي للتراب كي يشهق جرعة هواء.

***

كان من قوم شيشن اتزا الذين فجروا عين الماء

محارب المايا

مضى بعيدا

إلى المكان الذي لم يصله البشر

هناك رفع ذراعه ودفع بكتفه اليمنى

شق الهواء الراكد برمحه

وبلله بدم الحيوان في لمح البصر

لم يسمع غير صرخة مطعون

وخفق أجنحة طيور مذعورة

ثم غاب عنه القطيع

حمل فريسته على كتفيه وسار.

***

بينما كان دم الدابة يختلط بعرق جسده

في عودته شاهد ثقب النور يهز أوراق الغابة

تبع خط النور فخف الحمل على كتفيه

ولا يدري كيف وصل إلى أرض الكثبان

كانت الأرض تبرق بجلال

شاهد الآلهة في شبابهم يحملون قرصا وهاجا

كأنه وجه كسوشياكتزال (إلهة الورد والشباب والحب(

كان فلذة قلب اوتزلوبوشتيلي

الأله المضحي من أجلنا

ابن كواتليسو.

***

المرأة التي طرزت ثوبها بالأفاعي

في الرمل دفنوا القرص وصعدوا إلى السماء

متشابكي الأيدي كما لو أنهم يرقصون

في كثيب الرمل كان القرص يضئ

جاعلا الرمال بلون الذهب

بلون دم الفريسة مختلطا بعرق المحارب

لم يبرح المكان

محارب المايا

دار حول المدفن ناثرا بقدميه الرمل المقدس

ترك فريسته على الرمل

سمى الهة الجهات الأربعاء

أهداهم صيده بدمه الذي لم يجف بعد

وحين جن الليل سمع هسيس النار

لم تر عينيه نورا ولم تحرق جلده نارا

لكنه كان يشعر بأبرة الموت توخز قلبه.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى