نحت الداخل

عباس بيضون

سلوى شقير تشتغل بالهندسة المجردة، منحوتاتها تنشأ عن المربع أو المستطيل من ناحية أو الدائرة والخط اللولبي من ناحية أخرى، المربع بزواياه وخطوطه المستقيمة والدائرة كاملة او ناقصة أو سائلة في تعرجات لولبية، والمنحوتة هي من توالدات هذين الشكلين وتكاوينهما. إنها الأشكال الأولى (المبدأ الأول) في الطبيعة. ولكننا مع ذلك لا نشعر أنها نشأت عن الطبيعة نفسها، لم تتحول عن الجسد الإنساني ولا عن النيات او كائن حي. إن مصدرها الأول نظام هندسي، المستقيم والزاوية. تجاه المستدير والمنحني قد يكون هنا المرأة والرجل، قد تكون هنا ثنائيات أخرى، فالثنائيات كثيرة في فن سلوى روضة شقير، وكثيراً ما نعثر على قطعتين متلاحمتين متقابلتين وغالباً ما تكون الزاوية والخط المستقيم والدائرة أو الشكل البيضوي مادة هذا التقابل وذلك التلاحم، المرأة والرجل لا نحتاج إلى تبريراتها، إلا أنها فرضية على أي حال، وقد تستوي مع فرضيات أخرى. لكن في نحت سلوى روضة شقير هذا التآلف بين الخط المستقيم والزاوية المستقيمة مع الشكل البيضوي. تآلف وتداخل وتراكب يتم بلطف وتدرج. فسلوى روضة لا تسعى إلى اللعب على تضاد الشكلين واختلافهما. إنها بخلاف ذلك تسعى إلى تواصلهما وتشاكلهما. تواصل وتشاكل لا يقومان على اندماجهما وفناء واحدهما في الآخر، فالمربع بزواياه على قدر من الانفراد، كما هي البيضة والدائرة. وأحياناً يصل هذا الانفراد إلى حد الانفصال والقطع. ففي ثنائيات سلوى روضة شقير النحتية قد نجد البيضوي من جانب والمربع والزاوية من جانب آخر، وإن بدا في أحيان كثيرة أن المثلث منفصل عن البيضوي وكان في الأصل جزءاً منه، بل غالباً ما نجد أن منحوتات سلوى شقير هي كذلك، وإن ثمة قطعة انفصلت عن أخرى ولا تزال تقدر أن تعيدها إلى محلها. إنها ناشئة عنها ما دامت إحداهما تستوعب الأخرى، أو هي في أحيان أخرى تبدو متوالدة من بعضها البعض. فالأرجح أن مبدأ الانفصال ـ الاتصال، أو التوالد السيال، هو في أصل أعمال شقير.
وإذا كان من المبكر أن نجد في هذا الفن مبدأ المرأة نفسها. (الولادة والخصوبة والنسل) إلا أننا مع ذلك نجد أن عالم سلوى شقير هو مجدداً هذا التوالد السيّال وكأنه ـ عن قصد أو غير قصد ـ إعلاء لمبدأ الخصوبة ذاته، أو أنه ـ إذا شئنا نتوسّع ـ عالم رحمي، ربما هذه مجازفة بالقول ـ فهذه القطع المنفصلة ترتد ـ هل نستطيع القول ـ إلى نوع من الجسد ـ الأم. الجسد الأول، ثم إن أشكال سلوى روضة شقير اللولبية هي كما يتراءى لي أشكال رحمية، بل هي ـ وهذا سر استغلاقها أحياناً ـ أشكال لا تنشأ عن ظاهر الجسد، عن تكاوينه ومنحنياته وتدويراته، لكنها تنشأ عن داخل الجسد، عن تكاوينه البيولوجية والتشريحية. فالخطوة بين الظاهر والباطن، ليست هنا واسعة ولا بعيدة، إنها الخطوة بين الجسد الأستيتيكي الجسد الواقعي ـ على حد تعبير سلوى شقير ـ الجسد الأغريقي وبين الجسد البيولوجي الداخلي التجريدي. إن للجسد أيضاً باطناً ومبدأ أول، وإذا قبلنا هذه النظرة، بدا لنا مفهوماً هذا الميل المعماري الداخلي في منحوتات سلوى شقير، فعدد من منحوتاتها يبدو وكأنه تصميم داخلي لمبنى أو مدينة (أو جسد).
إن الدهاليز والأروقة والأعمدة الداخلية والتقطيع الداخلي هو ما يبدو من هذه المنحوتات، وكأننا حيال نزوع إلى النحت من الداخل، ربما يفسر هذا سمة في نحت سلوى روضة شقير هو أن المنحوتة قلّما تكون في اندفاعها إلى الفضاء، في قامتها وارتفاعها ومشاقتها وتآلفها مع الفراغ. إن للمنحوتة ظاهراً وباطناً إذا جاز القول، إن لها داخلاً وخارجاً على الأقل، أما الخارج فهو غالباً ناشئ عن مكعب، مكعب حقيقي أو مكعب غير ظاهر إلا في نزوع إلى مكعب، خطوط مستقيمة وزوايا واكتمال في الأعلى فيما يبدو النحت في داخل المنحوتة، التكوين والتشكيل والتفصيل هناك، ثمة منحوتات لشقير تنشق عن هذا التكوين كما تنشق القشرة عن الحياة، عن الجنين، أو تختفي الجنة والسماء داخل الجدران الداكنة والبساطة الهندسية التي تظهر من خارج المعمار الإسلامي نحتاً من الداخل؛ الكتلة في عكوفها على نفسها تلد.
هذا في الغالب يميّز سلوى روضة شقير بين النحاتين اللبنانيين. فالنحت لكثير من هؤلاء نوع من تلطيف الكتلة وتخليصها إلى إيحاء أنثوي، وتجميل قشرتها (قماشتها على تعبير آخر). ذلك يعني أن يستسلم النحت للكتلة، أن يفرغها من زوائدها، كما كان يقول رودان، ويظهر ملامسها الحلوة ويجلو جلدها ليس هذا شأن سلوى روضة شقير، فهي لا تكتفي بإفراغ الكتلة من زوائدها، بل تطوّعها، وتحوّل فيها، وتقطع أكثر من زوائدها. تفرغها أحياناً من الداخل، فيبدو النحت في هذا الفراغ الداخلي، وهي أحياناً لا تُفرغها، لكنها تكسرها، تفصل جزءاً عنها، وعلى حد الانفصال نرى قلب المادة، جرح المادة، نرى إذا جاز التعبير صميم المادة. (أو ربما ترتب منها ما تسميه هي بحورها وقوافيها، أبياتها الخاصة، وفي كل الأحوال يبدو النحت افتراعاً واختراقاً وتحويلاً).
لا تتبع سلوى شقير الملامس الأنثوية، هناك المستقيم والزاوية والمكعب، وفي داخلها التكاوين الرحمية، هناك دائماً أما يحصر الدائرة أو ما ينشأ عنها، ما يحبس التجاويف والحركات اللولبية، الحركات نعم الحركات، لأن منحوتة شقير هي دائماً من التحام الذكورة والأنوثة، كما التحام الأشكال الدائرية المحبوسة عن السيولة والانسياب بالزوايا المستقيمة، ربما من هنا تبدو منحوتاتها في حال من تمام قلق، في تماسك صارم، وفي درجة من حركة محبوسة، من هنا تبدو منحوتاتها في حال من تمام قلق، في تماسك صارم، وفي درجة من حركة محبوسة، من هنا توحي بأن صمتها ينطوي على قدر من توتر الشكل اللولبي على النحو الذي نجد في منحوتات شقير تعبيراً عنه. فالشكل اللولبي ليس فقط في الأساس شكلاً مركباً، ولكنه لا متناهٍ وهو في نحت سلوى شقير غالباً ما يكون (لساناً) كثيفاً مطوياً على نفسه بضع طيات منتهياً بصورة مباغتة، وفي هذا قدر واضح من عنف كامن محبوس نراه أيضاً في الأشكال اللولبية المجدولة المشدودة، والأرجح أن أشكال سلوى شقير المصقولة كما يصقل خشب الأثاث، البعيدة والمستوحدة أحياناً، تنطوي على قدر من حيرة ومن إضمار ومن داخلية نشعر معها أنها محبوسة في مكانها وفي إطارها قلقة في موضعها وكأنما لا يتسع لها.
نشعر أن هذه المعادلة الصعبة والالتحام الصعب هما ديدن فن شقير. بل تسعى النحاتة إلى أن تمتشق أشكالها منهما. هذه (الصعوبة) هي في الغالب ميزة لها بين النحاتين اللبنانيين الذين يصفهم سيزار نمور بإيثار السهولة والإغواء. وليست الصعوبة فقط في امتشاق الأشكال من دوامة التنازع. ولا في تجنب الغواية، وإيثار أشكال صارمة بدون نسب إنساني أو طبيعي مباشر، وتركيب بل وتهجين أشكال هندسية جديدة. ولكنها (الصعوبة) بعد ذلك في لغة هندسية تكاد تكون قاموساً مغلقاً. كما أنها أيضاً في نوع من تنازع المنحوتة بين السكون والتوتر، بين الحركة والصمت، بين النظام والتفكك، في هذا الضرب من نوم المعاني وتململها وتجاذبها.
تقول سلوى روضة شقير إنها لدى زيارتها إلى أميركا وجدت في مصانع فورد متحفاً. ليس نحت سلوى شقير شبيهاً برافعات فورد، لكنها تنحت براغي ضخمة، لا تكره البراغي وأسنان البراغي اللولبية تكاد تكون مثالاً هندسياً أيضاً. ليس هذا وحده، لكن أشكال سلوى شقير التي لم تنشأ عن الإنسان والطبيعة، تكاد تكون ناشئة عن آلات، إنها تمت أحياناً إلى (القشط) المجدولة والأشكال المعدنية المصقولة. كما تمتّ أيضاً إلى الأدوات الخشبية اللامعة والمصقولة أيضاً.
قلما تسعى سلوى شقير إلى إظهار المادة الخام فحتى الكسور مصقولة لامعة أيضاً. نحتها صناعة قبل كل شيء. وإذا كنا نجد أحياناً ما يشبه شمعدانات الماء أو نخاوير الصخور، فإن ذلك كأسنان البرغي يناسب ميل نحت شقير إلى حركة سيالة دينامية ومحصورة في آن معاً.
وإذا كان ثمة شيء تنشأ عنه منحوتات شقير فقد يكون العمارة، الأعمدة، الأبهاء، المداميك، تيجان الأبواب والخزائن، المداميك المبنية مدماكاً على مدماك. الأروقة المماشي الأبواب والغرف والحديقة والبركة أو الفسقية والمشربيات. هذه في الغالب أكثر مما تذكر به منحوتات شقير تذكيراً بعيداً وغامضاً، أو ما يبدو أنها تتصل به. وهي في الغالب تعمر منحوتاتها وتبنيها، والكثير منها يرتفع مدماكاً على مدماك وطبقة على طبقة. نحت سلوى شقير يجد طبيعته في تشكيلات شبه بيولوجية أو صناعية أو معمارية. إن له (طبيعته) الخاصة، إلا أن هذا النحت في الأساس نحت الواحد والزوجين والكثرة والتفكيك والتركيب والاتصال والانفصال، والتوالد والسيولة والانشطار والاجتماع. وإذا وكثيراً ما يكون الواحد كثيراً، والمنفصل متصلاً، والمركب مفككاً والسيال محصوراً، ولا يعني ذلك إلا أن نحت شقير لا يكتفي بالعودة إلى الوحدة الأولى، المبدأ الأول والشكل الأول. فنزوعه وشغفه الأكبر في الكثرة والتعدد والسيولة والتوالد، في ما يتعدى الأصل إلى التجليات الكثيرة والزمنية والعارضة والجارية، فأنت تقيم هذا البناء من قطع متراكبة، ثم هو في لحظة ينهار إلى قطع مفردة، فليس البناء أكثر من عرض ومن لحظة، وإنما يسعى النحت إلى تسجيل العلاقات إلى التحليل والتركيب، إلى البناء والهدم، وفي ذلك كله يبدو النحت (بنيوياً) إذا جازت العبارة. إنه يعمل حيث العلاقات والاحتمالات وهو يولد منها على هواه، ينشئ ويهدم وكأن لعبته ومداه هما العلاقات نفسها، قد يتشابه الكثيرون إلا أن الاثنين ينكسران في الغالب عن بعضهما البعض، أو يلتحمان ببعضهما البعض، أما الواحد فهو في الغالب حركة مجدولة متوترة وكأنه لا يزال في تنازع الولادة.
إنها باستمرار لعبة تكوين، لكنها أيضاً جدل تكوين، كما أنها أيضاً لحظة التكوين، فتكاوين روضة لا تشي بشيء بقدر ما تشي بمخاض ولادتها ولحظة امتشاقها. إنها لحظات وأعراض أيضاً، لا يدوم البناء إلا لحظة لكنك تبني منه في كل لحظة تكويناً فكأنك إذ تستعرض المنحوتة المتعددة منفرطة ومجموعة، وتجمع منها أزواجاً أو أحاداً كأنك في ذلك تجري المنحوتة في الزمن أو تحولها إلى لحظات، كان المستقبليون ولوعين بتسجيل الزمن، السرعة واللحظات المتواترة وشقير بدون أن تكون مستقبلية ذات هم مماثل، فمنحوتتها، حركة. انها انجدال وتوقر قبل كل شيء، وهي لحظة أيضاً، وإذا اجتمعت في المنحوتة المتعددة مفردات شتى، بدا لنا أنها جميعها عرضة لأشكال شتى تقوم وتنهدم تتصل وتنفصل تتركب وتتفكك هذه الحركة المستمرة السيالة. هي هذه اللحظات المتعددة، وإذا كانت متحركات كالدر تتحرك لأي عرض طبيعي فإن متحركات سلوى روضة شقير، تتحرك باليد والعين والمخيلة، إنها ما نكونه نحن، وما نلهو بتكوينه، فهنا أيضاً عدا الكثرة وهذرها وأعراضها اللعب، فنحن أيضاً حيال هذه المنحوتات أما ما يشبه دمى وأحجار شطرنج وألعاب فك وتركيب وبازلات من كل نوع ورقع للتبديل والتغيير. بهذا نتجه من الأصل الواحد إلى الكثرة الزائلة إلى اللعب واللهو، إلى عرض العالم وأهوائه: ألسنا نرى أن نحت شقير في هذا التحول من الأصل إلى الصورة، من الواحد إلى الكثرة من الفكرة والمبدأ إلى الداخل البيولوجي إلى العلاقات والأشكال التكوينية واللعب والحركة. تحول هو نفسه الذي يجعل الشكل الرحمي يحيط ببرغي في إحدى منحوتاتها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى