مئة عام تتوّج ريادة النحاتة سلوى روضة شقير

سمير الصايغ

تُعدّ الفنانة الكبيرة سلوى روضة شقير، التي ولدت في 24 حزيران (يونيو) 1916، من أبرز رواد النحت والفن التجريدي في العالم العربي. في بداية مسيرتها المهنية، استلهمت رؤيتها الفنية من فنّ العمارة الحداثي والفنون الإسلامية ومبادئ الفلسفة الصوفية عبر عنصرين أساسيين، هما الخطّ والمنحنى، لتطوير لغة بصرية اعتمدتها وزاولتها على امتداد عطاءاتها الفنية في الرسم والنحت والنسيج والجداريات والتصميم.
وفي المناسبة اقيم امس احتفال ببلوغها المئة عام في متحف سرسق ألقيت خلاله كلمات ورافقه معرض ضم مجموعة من أحدث منحوتاتها لعرضها في باحة المتحف.
اما الكلمات التي ألقيت فهدفت الى استكشاف أعمالها عبر التمعن في إرثها وتأثيرها ومكانتها في تاريخ الفن والإبداع في العالم العربي. المتحدثون هم جورج عربيد (أستاذ الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية في بيروت ومدير المركز العربي للهندسة المعمارية)، كلير ديفيس (مؤرخة متخصصة في تاريخ الفنون وقّيمة متحف ميتروبوليتان للفنون، نيويورك)، ريم فضة (مؤرخة متخصصة في تاريخ الفنون، مشروع متحف غوغنهام – نيويورك في أبو ظبي)، والشاعر والفنان سمير الصايغ استاذ فن الخط في الجامعة الأميركية – بيروت. وأدارت النقاش كيرستين شايد (باحثة ومتخصصة في الفن العربي الحديث وأستاذة في الجامعة الأميركية – بيروت). هنا مداخلة سمير الصايغ.

سمير الصايغ

< تجمعنا هنا والآن مئة سنة من عمر سلوى روضة شقير، أي قرن من الزمان. قرن يجمع بين قرنين: القرن العشرين، قرن ثورة الفن الحديث، والقرن الحادي والعشرين، قرن ما بعد الحداثة والفن المعاصر. وثمة عناوين كثيرة يحملها كتاب هذا القرن المزدوج كالأصالة والحداثة، الخصوصية الحضارية، الهوية الفنية، العالمية، وعشرات الأسماء والمصطلحات حول الأسلوب أو الموضوع أو المضمون أو الأهداف، وأسئلة تتردد باستمرار عن معنى الفن ودور الفنان.
مع ذلك لن نعدّ السنين ولا الأيام. لن نقف أمام تعدد المدارس والمذاهب والتيارات، لن نخاف إذا تأخرنا عن الوقت، أو إذا سبقنا العصر، أو إذا تجاوزنا الحد، أو خرجنا عن الموضوع. ذلك أن الزمن في فن سلوى روضة شقير زمن بلا سنين ولا أوقات.
إنه فـــن لا يروي الأخبار ولا يسجل الأحداث. فن لا يخـــبر عمّا جرى في الأمس أو عند طلوع الفجر، ولا هــو أيضاً يلاحق من انتصر ومن انهزم. ذلك أنه فن انشغل منذ البداية بالذي يقف وراء الأحداث، انشغل بجوهر ما حدث وما سوف يحدث. فن قرأ من البداية أو شهد من البداية بأن الوجود واحد، وأن انسان هذا الوجود هو واحد أيضاً، سواء كان في الشرق أو الغرب، في الشمال أو في الجنوب.
لقد فصلت سلوى روضة شقير في فنها، على سبيل المثل، الواحد إلى اثنين فازداد الواحد واحدية، وراكمت منحوتاتها جزءاً فوق جزء، حجراً فوق حجر، سطراً فوق سطر، فازداد النحت انصهاراً وتماسكاً، وقسمت المقعد مقاعد فازداد المقعد التصاقاً وصلابة. والوحدة والانصهار والتماسك والصلابة لا تقاس بالأيام والسنين.
هكذا جاءت الخطوة الأولى لسلوى روضة شقير كوحي فني… كاملة وشاملة ومغلقة، مستشرفة ومتذكرة ومتأملة، حاضرة وغامضة، سهلة وممتنعة… منذ البداية، ككل وحي. خطوة التقت في منتصف القرن العشرين مع خطوات حركة الفن الحديث في الغرب، ومع تيار التجريد الأكثر حداثة وتمثيلاً لروح الثورة الفنية التي عرفها الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، في لقاء يشهد بقوة على أن الطريق إلى الحقيقة الفنية ليست واحدة. في الوقت ذاته، كانت هذه الخطوة تستيقظ فيها العين لترى أن آثاراً وقيماً للفن الإسلامي لا تزال تنبض، وأن تأويلاً أو قراءة جديدة للماضي تصلح لأن تكون قراءة لأجل المستقبل.
هكذا، ومنذ الخطوة الأولى، وقفت سلوى في المسافة الحرجة التي التقى فيها تجريد الفن الإسلامي مع تجريد ثورة الفن الحديث، إلا أنها ما تماهت مع التجريد الغربي ولا هي كررت التجريد الشرقي، بل كانت كمن يتلقى نوراً قذف في الصدر.
هي خطوة وحي، وحي يقوم على الشكل كعالم قائم بذاته، شكل لا يقابله موضوع، ولا هو طرف في معادلة الصورة والمعنى، الجسد والروح، بل هو الشكل كلغة أو الشكل كتجلّ لحقائق خفية، حقائق مطلقة، أو تجسيد لأنظمة كونية تمثل روح وجوهر الوجود بأسره.
منذ البداية، لم تكن أشكال سلوى روضة شقير في الرسم والتصميم والنحت اختصاراً لمشهد أو لصورة أو لواقع مرئي بل كانت منذ البداية حضوراً مستقلاً يجيء كتجسيد لحركة النظام، لرؤيا، لامتلاء، لنضج تماماً كما تجيء أشكال النبات أو أشكال الغيوم أو أشكال الأحجار عندما يكتمل النظام ويتم الحساب وتلتقي العناصر ويحين الوقت، لتكون شاهداً على حقائق كونية كبرى أو جزءاً من الوجود نفسه.
مع النحت انتقلنا من عالم الاحتمال إلى عالم التحقق، من التصور إلى التلمس، من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. انتقلنا إلى عناوين جديدة، إلى الفراغ والامتلاء، إلى الغائر والنافر، إلى المجوف والمسطح، إلى الكروي والمكعب، إلى الداخل والخارج، إلى الملتف والمتقاطع، إلى المسنن والمملس، إلى المتراكب والمتراكم، إلى المستلقي والمسطح، ومرة جديدة إلى المعاني المطلقة التي يمثلها الفراغ أو الامتلاء كحقائق كونية أو أنظمة خفية في أسرار هذا الوجود واستمراره.
إنه فن يمضي ومنذ البداية إلى التصوف. هو فن صوفي بامتياز، يزهد بظاهر الدنيا ومغرياتها، يزهد بالعواطف والمشاعر، يزهد بالمعاناة والصراع، يزهد بالغلبة أو النصر، يزهد بالبهرجة والثروة. هو فن لا يقع في الثرثرة والوسوسة، في الشك والخوف، فن تغيب عنه ادعاءات الأنا وهلوسات الفنان. هو فن متقشف، لكنه بليغ في وضوحه وقوي في حضوره وغني في تماسكه. فن يقول لنا ما يقوله القلب عندما ينجلي أو العقل عندما يرى.
مئة عام من عمرها، زمن مديد. لكن فنها وقف عند اللحظة كأنها الزمان كله، كأنها الأبد، ووقف أمام آلاف السنين كأنها اللحظة التي مضت الآن.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى