لمحات ثقافية

مودي بيطار

> استوحت لويز إردريتش حادثة روتها والدتها في روايتها الخامسة عشرة «لاروز» الصادرة في بريطانيا عن «كورسير». الكاتبة التي تنتمي جزئياً إلى الهنود الحمر نالت جوائز «بِن» و»الكتاب الوطني» و»حلقة النقاد»، ويقول مواطنها فيليب روث إن اهتمامها بالهنود الحمر يذكّر بمحلية فوكنر، ويعتبرها من أفضل الكُتاب الأميركيين اليوم. ترى إردريتش نفسها راوية قصة، وتقول إن الحكاية في صميم ثقافة الأميركيين الأصليين. تملك مكتبة في مينيابوليس- مينيسوتا، يتدلى من سقفها قارب مقلوب، وفيها كرسي اعتراف رصفت فيه الكتب.
خلال رحلة صيد في مطلع الألفية الثالثة، يصيب لاندرو آيِرْن، الذي ينتمي إلى قبيلة أوجيبْوي، ابنَ صديقه وجاره بيتر رافيتش بدلاً من الغزال. كان دَستي، الذي شابَهَ لونُ شعره حقولَ آخر الخريف، صديقَ ابنِه المفضّل، ووالدته الأخت غير الشقيقة لزوجته إيمالين. يهتدي لاندرو بحكمة أجداده، ويقدّم طفله لاروز إلى أسرة دَستي تكفيراً. يرفض بيتر أولاً، ثم يغيّر رأيه حين يرى وجه زوجته الذي بات ناعماً وشرهاً حين سمعت العرض. لكن الحادث يلبّد حياة الأسرتين بمناخ عدمي. يشعر لاندرو بالذنب والاستسلام ويتمنى الموت، ولا تفهم زوجته إيمالين كيف تخلّيا عن طفلهما. يتخيّل بيتر أنه يقطع رأس لاندرو بالفأس، وتجلس زوجته نولا على كرسي تحت حبل يتدلى من ألواح الخشب وهي تفكر بالانتحار. لكن كلتا الأسرتين تخشى نتائج مقتل دَستي، وتجهد لتتابع حياتها في القرية الفقيرة، اليائسة، المصعوقة بالحدث.
يعمل لاندرو مساعداً صحياً يجول على البيوت، وحين يزور السيدة بيس، والدة زوجته، يعجز كلاهما عن الإشارة إلى لاروز، ويتحدثان عن ماكينة السجاد. تحاول نولا مساعدة لاروز الذي يبلغ الخامسة، على الاستسلام لمأساته بخبز الكاتو له، لكنه يتوقف مع ابنتيها عن تناوله بعد حين ليجلس معهما ساعات في المرأب. تعتمد إردريتش الطعام تعويضاً ومجازاً للسلام. يربح ابن روميو، شرير الرواية، مسابقةً لصنع برج من المارشمالو والسباغيتي اليابس، ويجتمع أهل القرية في النهاية إلى المائدة كباراً وصغاراً، أحياء وأمواتاً، في تأكيد على الصلح والغفران وسعياً إليه.
كان روميو صديق لاندرو في مدرسة الأميركيين الأصليين الداخلية، ثم فقد صداقته. يدمن على العقارات ويسرق أدوية المسنين في دار الرعاية، فينتقمون منه. يعتقد أن لاندرو مسؤول، فيرد بإقناع بيتر بأن مقتل ابنه كان مقصوداً، ويؤجج قتامة الصراع. تعود إردريتش إلى أول لاروز في القبيلة. كانت طفلة باعتها أمها في 1839 لرجل أبيض مقابل التبغ والكحول، فاغتصبها وعنّفها وردّت بالمساعدة على قتله. تقول إردريتش إن البيض حاولوا القضاء على أهل أميركا الأصليين بالسل والإدمان والمدارس الداخلية، لكنها تلتفت أيضاً إلى حاضر بلادها المفجوع بضحايا القتل الجماعي، وانقسامه إلى ثري فاجر وفقير قلق بعد اختفاء الطبقة الوسطى. تكتب منذ ثلاثة عقود، وتذكر أن الحكومة لم تغلق مدارس «صَهر» الأميركيين الأصليين الداخلية أو تسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية إلا في أواخر السبعينات. معظم الأذكياء منهم محامون، وهي اختارت الكتابة لأنها الطريقة الوحيدة التي تعرفها لتبني شخصيتها.

العائلة حرباً وسلماً

> هي المرة الثالثة التي تكتب ماغي أوفاريل عن الاختفاء، وربما كان على شخص ما أن يقول إن الرسالة وصلت. «لا بد أن هذا هو المكان» الصادرة عن «تندر» تركّز على العائلة في انشقاقها والتحامها والأسئلة الكثيرة، الصامتة والصارخة، في حربها وسلمها. يقصد الراوي دانيال ساليفن إرلندا ليستلم رماد جدّه المتوفى، ويلتقي امرأة منعزلة وطفلها. يكتشف أنها ممثلة فرنسية شهيرة هربت من حياتها إلى جبال دونيغال. كانت كلوديت ولز زوجة مخرج سويدي مزاجي، وعُرفت بتنوع أدائها وذكائها الحاد. أهملت مظهرها خلافاً لتوقعات هوليوود، ورمت المصورين بمصابيح الاستغاثة، وتركت ستوديو التصوير يوماً في أوج شهرتها. اختفت وأشاعت أنها ماتت، وباعت بعض أغراضها في مزاد تستخدمه أوفاريل لتروي قصتها.
كان دانيال أستاذ ألسنية نيويوركي عرفه المستمعون إلى البرامج الإذاعية ليلاً. حاضر في التغيير والمرونة، وعمل بالنصيحة حين ترك أسرته ليتزوج كلوديت. جعلته يقسم بأن يحفظ سرّها، وعاشا مع طفلها في مزرعة متداعية في وادي دونيغال المنعزل، الوعر الطريق. كانت غضوبة، وبالغت في استجابتها لما يحدث حولها، ولئن استطاع الابتعاد عن أسرته جسدياً، تنقّل عقلاً وقلباً بين الحياتين. يسمع صوت امرأة على الراديو، ويسترجع ذكريات مقموعة. يرى طفلاً مصاباً بالإكزيما فينخسه ضميره، ويفكر أن قلبه غادر. تربطه علاقة أوديبية بوالده الذي سيبلغ التسعين قريباً، ويتهيّب السفر إلى أميركا للاحتفال بالذكرى، لا لأن أباه يقترب من الرحيل، بل لأنه عاش بلا نبض أصلاً.
تنتقل الكاتبة بين إرلندا الحاضر وتسعينات لندن، وتبتعد الجغرافيا إلى الهند، بوليفيا والسويد. ترصد الأطفال جيداً بسلوكهم الغريب، المميز في مناخ يتطلّب التكيّف الدائم مع إخوة بالتبني ومن شريك جديد. تكشف أوفاريل الأحداث مسبقاً، ويعرف القارئ مثلاً أن ابنة دانيال ستموت بعد سنوات في حادث. كتبت عن نهاية الحب بشاعرية أليمة في «إرشادات عن موجة الحر»: «يدرك أنها النهاية، نهايتهما، تقف هناك على الشاطئ مثل شخص ثالث». في «لا بد أن هذا هو المكان»، يحدس دانيال بالختام الموجع المقبل: «هل أشهد بداية النهاية، إذا كانت هذه، النقطة المنحدرة التي نخشاها كلنا؟ هل أعيش اللحظة التي تبدأ معها كل الأنوار الصغيرة في الانطفاء، ويبدأ حبها لي بالضعف والتقلص والتراجع؟ شهدت نهاية علاقات ما يكفي لأعرف هذه اللحظة، لكن هل سأعرف كيف أميّزها حين تأتي؟ هل هي النهاية؟ ماذا فعلت؟»، تجيب كلوديت عن سؤاله الصامت بسؤالها صباح يوم وهما في السرير: «هل تعتقد أننا بلغنا نهاية قصتنا؟»، فيفكر كم أنها طريقة «كلوديتية» في التعبير.

في انتظار الفجر

> تقترب «يوليسيس» من الذكرى المئوية الأولى لنشرها ولا تزال تلهم كتّاباً بتقليدها. آخر روايات اليوم الواحد في بريطانيا «أحد الأم» لغراهام سويفت و «جدّي عذب» ل أ. ل. كينيدي. يشير العنوان إلى قلب لندن حيث يعيش البطلان المضطربان، الهامشيان، مِغ وليامز وجون سيغِرْدسن. هي محاسبة مفلسة في الخامسة والأربعين، ومدمنة يكاد يمرّ عام على توقفها عن شرب الكحول، وهو موظف حكومي مطلّق يشرف على الستين، ويسرّب أسرار الحكومة. كلاهما موحش الروح، يتلهّف للعثور على شخص يفهم عذابه ويلطّفه، والسؤال هو ما إذا كانا سيلتقيان في النهاية. هل ستتمكّن مِغ من إكمال العام من دون كحول، وهل سيتغلّب جون على اضطرابه ويذهب لملاقاتها؟
يعاني جون بعد طلاقه، وتفاقم ارتكابات الحكومة اللاأخلاقية أزمته فيواجهها بتسريب الأسرار. وحيد في بيته ومقر عمله، ويعالج وحشته بكتابة رسائل للعازبات اللواتي يجهلن كتابتها. هكذا يتعرّف إلى مِغ، كارهة الذات التي تعتبر نفسها قحباء سيئة الطباع تلقي اللعنة على كل ما ومن في حياتها. تعتمد كينيدي الفلاشباك في روايتها التي تتعدى خمسمئة صفحة، ويزدهر فيها التكرار والتطويل. تعرّضت مِغ للتعنيف في علاقة سابقة، وعولج سرطان عنق الرحم الذي أصيبت به بطريقة بدائية. تعمل في مأوى للحيوانات، وتبحث عن الخلاص من الإدمان في جلسات مشتركة للمدمنين. لا تزال هشة، متألمة، تبكي حاضرها وماضيها، وحين تعجز عن النوم تقصد الحديقة العامة لتحدّق في المدينة المنبطحة أمامها في انتظار الفجر. جون معرّض للانفضاح والدمار في أي لحظة، ويقول إنه يشتاق إلى حياته. يهجس بالبحث عن معلومات عن مِغ قبل لقائها، ويسترجع زواجه الفاشل، تفاصيل من كشفه أسراراً رسمية، ولقائه صديقاً الليلة الماضية. معظم الرواية يركّز على اليأس الحاد لشخصين وحيدين أمامهما فرصة أخيرة ربما لقليل من الحب في عالم بارد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى