هشام البستاني يرى أن اللغة فاعل ثقافي لا مجرد أداة تعبير

احمد المؤذن

كثيرون يستطيعون الكلام بأناقة مفرطة حينما يتعلق الأمر بالثقافة، بل ويغرقون السامع بالعديد من تنظيراتهم التي لا رصيد لها من الواقع ولكن قلة ممن تجيد العمل على رقعة الساحة الثقافية وتتخلى عن المفاهيم المعلبة التي لا تخدم الخطاب الثقافي حيث تقدم مجهوداتها بصمت وتملك رؤية مختلفة.

نتحدث هنا عن القاص العربي الأردني د. هشام البستاني، نقترب من عوالمه محاولين سبرها حيث يقول:

الأصل في الكتابة أنها منتجُ ثقافتها الأصلية، وأنها لا تشتق معناها من الثقافة التي تترجم إليها. كل كتابة تستبطن أو تستجدي ثقافة أخرى، وغالباً ما تكون الثقافة المُستجداة ثقافةً مُهيمنة. هي كتابة انتهازية لا تتجادل وتشتبك مع الواقع الذي أنتجها، بل تتحدث مع “الآخر” صاحب السطوة والسلطة والإمكانيات، تعرض عليه نفسها، وغالباً ما تستعير عينه الاستشراقية ومفاهيمه المسبقة لتنطلق منها مساهمة في التزوير.

الكتابة، إذاً، هي فعلٌ متعلقٌ بالثقافة المصدر، تحفر فيها وتشتبك معها، ولا علاقة للترجمة في عملية إنتاجها على الإطلاق.

الترجمة هي نقل هذا المنتج إلى لغة أخرى من باب أن الكتابة هي عالمية من باب ضرورة التفاعل والاطلاع والتثاقف والمعرفة والتواصل والاستفادة المتبادلة.

وعن حضور القصة القصيرة العربية في المنابر الإعلامية الغربية، وإسهامها في تحسين صورة العربي يرى البستاني أن صورة العربي التي نتحدّث عنها والتي يراد “تحسينها” هي صورة مفبركة، مصنوعة لأغراض الدعاية ومشتقة من الاستيهامات الاستشراقية المتعلقة بـ “البداوة” و”العنف” و”الجمل” و”الصحراء” و”الحجاب” و”الحريم”، ومؤخراً “النفط”، “الهمج البدائيون” الذين يراد نقلهم إلى المدنية عبر وسيط الاستعمار والهيمنة، وبالتالي تصبح تبريراً “أخلاقياً” للاستعمار والهيمنة عند المستعمِر.

يفترض في الكتابة (وهذا ما آمل منه في المشاريع التي أعمل عليها على الأقل) أن تحطم هذه الصورة المفبركة السطحية الساذجة، وأن تقدّم المشهد كما هو، بتعقيداته وصراعاته وتشابكاته وعمقه، وهذا صادم للـ “غرب” والناشرون الغربيون (في مجملهم) يسعون إلى تحقيق الأرباح، وبالتالي زيادة المبيع، (كما الناشر العربي بالمناسبة، كلاهما يتعامل مع الفن كسلعة)، وبالتالي تصير الكتابة السطحية، التلصصية، التي تستجيب مع ما يتوقعه الزبون الذي تشكل وعيه حول “الآخر” المستعمَر من خلال أجواء “ألف ليلة وليلة” والنصوص الاستشراقية، هي سلعتهم الأساسية “البيّاعة”.

الكتابة الفنية ستفشل في اختبار الصور المسبقة، والإكزوتيكية، والتلصّص، وهذا دليل نجاحها الفنيّ، والفن المعبّر عن الداخل هو القادر على مواجهة “صورة العربي” وتحطيمها.

ولا علاقة للتقوقع داخل جدران أي لغة بالوصول، فكل ثقافة تعبّر عن نفسها وتنتج نفسها بلغتها لا بلغات الآخرين، واللغة فاعل ثقافي لا مجرد أداة تعبير، تنتج المعاني وتستبطن حمولات الماضي وتعيد إنتاجه في الحاضر وتتشكل بواسطة الفواعل ذات النفوذ، وكذا تعيد تشكيل الحاضر بما تستبطنه كلماتها من مفاهيم أنتجتها.

الكاتب بالعربية غير قادر على إيصال صوته لأنه يعيش حالياً في فترة انحطاط تاريخي عام، يعيش في دول فاشلة لم تحقق التنمية، استبدادية لم تسمح بنمو المجتمعات والشراكة السياسية، والثقافة بالنسبة لها هي مجال للدعاية السلطوية والهوياتية لا أكثر. مثل هذه الأجواء تُقصي الكاتب الحقيقي، هذا إن لم تعتقله وتسجنه وتحول حياته إلى جحيم.

غياب المشهد الثقافي الفعال، وغياب الاهتمام المؤسسي والرسمي بالترجمة (مثل الكثير من دول العالم الأخرى التي تخصص موازنات كبيرة لدعم ترجمة أدبها إلى لغات العالم الأخرى)، وطغيان الاستهلاكي على الفني، كل هذه العوامل سجنت الكاتب بالعربية بين جدران شعوب جُهّلت، وأنظمة تهتم بالتجهيل لا بالتنوير، وأنماط استهلاكية تدفعها الدعاية المستمرة وتزدهر في غياب العقل النقدي الفعّال.

وفي رده على مقولة “إن الساحة الثقافية العربية يعتريها المرض ولا تطور من خطابها نحو الانتاج ورفع مستوى التنمية في مجتمعاتها”، قال البستاني: بل هو مدعاة للمواجهة والتعرية والفضح. الحريق الذي سيُخرج من رماده البراعم الخضراء (بحسب حيدر حيدر)، دمار الدمار أو خراب الخراب كشرط لولادة الجديد، هو مهمة كبرى، وجليلة، ونبيلة.

ولكنه يضيف: إن واقعنا غير قادر على صناعة أي شيء، حتى كرة القدم التي توظّف في سياقات إلهائية تعويضية ليست بمستوى كرة القدم الاحترافية في أوروبا وأميركا الجنوبية. القاعدة والدولة الاسلامية وغيرها من التنظيمات المتطرفة هي نتيجة الفشل الذريع للدول “الوطنية” ما بعد الاستعمارية، وأنظمتها الفاسدة المستبدة التابعة، التي ما زالت على رأس سلطتها حتى اليوم، كلاهما صورة للآخر مع فارق أن الثانية سبب، والأول نتيجة.

أما المطرب، فما تشير إليه هو الموسيقى الاستهلاكية الفارغة والسطحية، وهي تحظى بالرعاية والانتشار، ومثلها الكتابة الاستهلاكية الفارغة والسطحية، هذه أيضاً تحظى ببعض الرعاية والانتشار، أما الموسيقى غير الاستهلاكية، المثقفة، فهذه تظل محصورة في الدوائر الضيقة والنخبوية، وكثيراً ما تحاصر وتستبعد.

الخلل يكمن في أننا ما زلنا نعيش في دول لم تحقق التحرر، وانتقلت من الاستعمار إلى الاستبداد، وعمل هذا الأخير على تفكيك وتدمير أو احتواء وتشويه أي إمكانية للنضج المجتمعي (نقابات، أحزاب، مثقفين)، فصارت مجتمعاتنا تجمّعات، قبائل وعشائر وطوائف وإثنيات. المشوار طويل، والانتفاضات العربية الأخيرة (قبل اختطافها و/أو اجهاضها) هي جولة أولى من جولات قادمة، والتاريخ لا يتغيّر بسرعة، وأهمية الكتابة أنها تحفر في الوعي على المدى الطويل، وبالتالي فهي أداة تاريخية مناسبة لتغيير أسباب الخلل.

وعن طغيان الرواية وانحسار القصة القصيرة وكيفية إعادة الاعتبار لها، يرى هشام البستاني أنه ليس ثمة “نقص” في القصة القصيرة لنعيد الاعتبار إليها. كل ما في الأمر أن الرواية، لأنها أسهل للقراءة بحكم انفرادها على عدد كبير من الصفحات والتمهل في سرد الأحداث والتفصيل في رسم الشخصيات والأماكن والعلاقات، والأفقية في نوع الاشتغال، أنسب بكثير لتكون السلعة الأدبية الممكن تسويقها على نطاق واسع.

هذا لا يتحقق في القصة (والشعر أيضاً) لأنه فن يعتمد التكثيف، ويحتاج من القارئ أن يشتغل ذهنياً على النص، أن يتعب عليه وعلى نفسه. القصة فن عمودي، متعلق بالعمق/ الأعماق، لا يدرس الظواهر بل يتساءل بشأنها، يراها من عدة زوايا ولا يصل إلى إجابات محددة أو نهايات بعينها.

القصة أصعب على القراءة، ولا تناسب الأنماط الاستهلاكية التسطيحية، ولهذا “لا تبيع” (بلغة السوق)، فنبذها الباعة وأسبغوا النجومية على السلعة المفضّلة وكتّابها، وجارتهم في ذلك السلطة الممولة للجوائز الكبرى التي تستفيد من النجوم المسطحين، ومن الثقافة المسطحة، ومن تعهير الكتابة وتحويلها إلى سلعة عمومية. بهذا المعنى، القصة القصيرة لديها كل الاعتبار الفنيّ، ولا أتمنى لها أن تحظى بالاعتبار “السلعيّ”.

وهو يرى أن أغلب دور النشر لا ينطبق عليها حتى وصف “دكاكين”. أنسب توصيف لها هو “مطابع”. لا تغلّب نفسها حتى بتسويق الكتاب، أو نقله إلى المعارض. يدفع المؤلف أو الجهة الداعمة ثمن الكتاب، وهي تطبعه وتلقيه في مستودعاتها، تحمل معها “البيّاع” (غالباً ما يكون البيّاع رديئاً) حتى لا تتكلّف أثمان الشحن، فتكتمل دائرة الرداءة (مزيدٌ من الترويج للرائج).

لا تستضيف دور النشر هذه كتّابها، ولا تنسّبهم للمؤتمرات، ولا تقترحهم للفعاليات المرافقة لمعارض الكتب، ولا ترسل نسخاً من كتبهم للنقاد والمراجعين، ولا أي شيء. صناعة الكتاب في العالم العربي ليست متخلفة فقط، بل غير موجودة من الأساس.

يكره هشام البستاني كلمة “الآخر” ويقول: أعلم أنك تشاركني هذا الشعور لأنني أجدك تضع هذه الكلمة دائماً بين أقواس. أنا لا أحتك بالآخر عندما أقرأ كتاباً من العالم، بل أحتك بكل كاتب على حدة، أحتك بتجربته، برؤيته للعالم، بأدواته الفنية الفريدة، وبالتأكيد كل هذا (مضافاً إليه الفنون الأخرى من سينما وتشكيل وموسيقى ورقص معاصر، وعلوم، وفلسفة، وواقع يومي معاش) تضيف (بل وتصنع) التجربة الأدبية والكتابية والفنية لكل كاتب وفنان مهما ادّعى عكس ذلك. الكاتب والفنان يقف فوق أكتاف كل قراءاته ومشاهداته ولا يكون إلا بها.

أما بالنسبة للضعف الشديد لتواجد الأدب العربي عالمياً، فهذا نتيجة لعدة عوامل مركبة، منها دونية النظرة المسبقة الناتجة عن الماضي الاستعماري القريب، وآليات الدفاع الأيديولوجي التي تبناها الاستعمار لتبرير ما ألحقه من ظلم وجرائم (همجيّة المستعمَرين ولا إنسانيّتهم وسذاجتهم …الخ)؛ وآليات السوق التي تنشر ما يعزز الصور المسبقة فتتعزّز بذلك النظرة الاستعلائية إياها وتستشري أكثر؛ وأخيراً فإن موضة الجوائز البهرجية الاستعراضية وما أنتجته من نزعة لدى الكاتب ليصير نجماً معقّماً يقدّم “مَنْظَراً” وكمّاً (ليلحق مواسم الجوائز كل عام، عليه أن يُنتج سنوياً رواية أو أكثر) بدل أن يكون إشكالياً يقدّم محتوىً ونوعاً، وتعهّد الجوائز بترجمة هذا الشكل الجديد من الكتّاب / الكتابة، سيزيد من وضع الأدب العربي الضعيف عالمياً.

لهشام البستاني مشروع يحمل عنوان “أنطولوجيا القصة العربية” يقول عنه: أنطولوجيا القصة العربية الجديدة هو مشروع فكرت فيه ليكون تتويجاً لعدة أنطولوجيات حرّرتها وقدّمت من خلالها ما أسميه “الكتابة الجديدة” في صحيفة “أخبار الأدب” القاهرية ومجلة “الآداب اللبنانية”.

لا أعني بالكتابة الجديدة كتابة الجيل الجديد من الكتّاب، بل أعني بها الكتابة التي غادرت الشكل الواقعي، والمواضيع الرومانسية التفاؤلية التي طبعت الكتابة في الخمسينيات والستينيات أثناء صعود ما سمي بـ “مشروع التحرر” والتيارات القومية وحركات المقاومة، واستمرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، غادرتها باتجاه أشكال كتابية جديدة مبتكرة، بحساسيات جديدة، ومواضيع تستشرف الخراب والفشل القادمين (الذين نعيش فيهما اليوم).

ومن رواد هذا النوع من الكتابة زكريا تامر وحيدر حيدر ومحمد خضيّر ومحمد زفزاف. ولكون هذا النوع نوعا “مفتوحا”، فقد استمر بالتطور واتخاذ أشكال كتابية جديدة وقدّم مقاربات إبداعية فذة خصوصاً في حقل القصة القصيرة.

ونظراً لطغيان الاستهلاكي على الفنيّ، فقد أحببت أن أقدم كتاباً أنطولوجياً يقدّم عيّنة منتقاة من هذه الكتابة، جمعته وحرّرته، ورفضه (منذ عام 2012 إلى الآن) كل ناشر تقدّمت به إليه! وها قد صدر جزء منه قبل أسابيع (ويالمأساة المشهد الثقافي العربي)، مُترجماً إلى الإنجليزية، ضمن عدد خاص من مجلة “ذي كومون” الأدبية الأميركية الصادرة عن جامعة آمهيرست العريقة؛ عددٌ حمل عنوان “تجديد”، وكنت رئيس تحريره الضيف إلى جوار رئيسة التحرير الأصيلة جينفر آكر. اذاً صدرت الترجمة الإنجليزية للأنطولوجيا قبل أن يُنشر الأصل العربي، ثم تسألني عن المؤامرة على الأدب العربي؟

 

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى