الحب يصنعه صندوقٌ من خشب

مي فاروق

بين النهرين حضارةٌ أضاءت الفكر البشري والثقافة الإنسانية. حضارة ناضجة نشأت في بلاد الرافدين خطواتها كانت ثابتة وعلى مراحل متعاقبة، السومارية، والبابلية، الآشورية، والكلدانية، والآرمية، حتى بلغت قمة الرقي في العصر الإسلامي العباسي.

كان أهم ما يميزها ذلك الخليط العبقري من الأدب والفن والموسيقى خليط يجعل لها طبيعة خاصة ورابطة حميمية تجمع بين العقل والروح والعين والأذن، وإيقاع مرتبط بالطبيعة والجمال، سحر يطل من كل زواياها، وشجن مشوب بغموض وصفاء معا.

هكذا كانت بين نهرين تجري، وبعيداً عن التفسيرات والتحليلات التاريخية رأيت فيها ما لم يعد له وجود اليوم شأنه شأن الكثير مما رحل، رأيت فيها الإنسان بكامل إنسانيته وبعمقها الأمر الذي يجعلني أطرح تساؤلا محيراً يبدأ بلماذا وينتهي أيضا بها: فلماذا صارت العراق اليوم أكثر المناطق سخونة ودموية، لماذا؟

ربما جاء التساؤل متزامناً مع ذلك النصر المزعوم لاسترداد الفالوجة من أيدي تنظيم داعش اللاإسلامي، أنا لا أسخر من الحدث ولا أهمشه بل أراه مجرد انتصار هش، ليس سوى جولات وحروب عبثية لا يدفع ضريبتها وكلفتها الا المدنيون وحدهم.

حروب تجعل العراق مهددة العروبة وقابلة للانقسام والتجزئة. نعم. فليس بالحشد الشعبي وحده ستحيا العراق فمن قال إن داعش هي عقبة العراق الأولى، أو عقبة العرب أجمع؟ الأمر أكبر من هذا الوهم الذي لن نجني منه إلا مزيداً من الدم وكثيراً من الطائفية.

فكيف تتقاطع طرق السلام مرة أخرى على ضفاف النهرين؟ وكيف يعود الطرف الغائب من جديد، ذلك الإنسان الذي غاب عن المشهد ولم يعد موجودا سوى في تعداد الضحايا، ومتى نعرف أننا نسير في كهوف مظلمة ومصير مشوب بالرماد والدمار والهلاك، لا جدوى منه سوى الألم.

نعم. فكم من ألم سيمزقنا بعد؟ بحاجة نحن لثقافة تتولد فينا ونعيدها من جديد لقاموسنا المعرفي والإنساني تبدأ بالحب وتنتهي بالإبداع لتخلق إنسانا. وحتى لا يبدو الأمر رومانسياً، سأذكر لكم مشهدا عبقريا واستثنائيا يوضح ماذا أعنيه بالحب.

المشهد على مسرح الاولومبيا الفرنسي في ٢٥ فبراير/ شباط ٢٠١٦، على اليسار كان عازف بيانو تونسي، بجانبه كونترباص أميركي، وعلى اليمين عازف إيقاع برازيلي، وفي الجانب الآخر عازف الكلارينت التركي وفي وسط المسرح كان هو متصدرا بملامحه المليئة وداعةً وكرامةً وشجنا، جالساً محتضناً آلةً خشبية مثل الصندوق تسمى عودا، ويسمى هو نصيراً أو زرياب الصغير، بدأ نصير شمة بالعزف على العود لمقطوعة بعنوان “عالم بلا خوف”.

انتهى الحفل بمعزوفات اختصرت التاريخ بعظمته وجماله عادت فيها بغداد موطنا للحب. هذا الحب الذي ظل صامداً يقاوم الشر من صندوق خشبي لا يتجاوز زنده ١٩ سم، والذي رغم ذلك تجويفه الضيق إلا أنه كان قادراً على خلق مساحات واسعة من الخيال والإبداع والعشق والحكايات التي وحدها تصنع عالماً بلا خوف.

العود ليس صندوقاً خشبياً وحسب ولا آلةً بابلية ترجع إلى ٢١٥٠ ق. م، بل تاريخا من العشق والجمال والعظمة.

وحتى لا تحقرن من المعروف والتاريخ شيئاً سأذكر لكم كيف كان العود قديما، فلم يكن سلطان الطرب، وملكا للتخت الشرقي فقط بل كان وسيلةً استخدمها العلماء والفلاسفة لشرح النظريات، ووسيلة تُدرس على أساسها العلل الفلكية ووسيلة للتأمل الروحي وربط بين أوتار العود ومزايا الإنسان، كان العود مكوناً نفسياً وفلسفياً وأدبياً بليغاً وثرياً، كأنه كاميرا تلتقط الأشياء والمناظر بحس شعري فني عال تتلون معه الحياة وتمتليء سحراً وجمالاً وعظمة.

وكان عازف العود متشبعاً بحس صوفي يجعله يبدو كملاك يعزف في سحر. كان هذا الصندوق الخشبي ذروة المعاني الإنسانية السامية وخلاصة النتاج الفكري والحسي معا لشعب احترف الحزن عزفاً وعاش على الأوتار يحكي قصص الحب والجمال، أين هذا الآن، ولماذا أُغلقت هذه الشرفة الخشبية، ولماذا رحلت تلك الأصابع الناعمة التي كانت تصنع استثناءً جميلاً، ولماذا تحولت لمخالب شيطان أسود؟

هذا الشيطان الذي هدم بناية معهد الفنون الموسيقية في منطقة الوزيرية ببغداد، في مايو/ آيار الماضي، تلك البناية التاريخية التي تعود لاكثر من سبعين عاما، والتي شيدها الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، بناية تحمل على جدرانها ألف معزوفة وألف ألف قصة وحكاية وصمة عار وكارثة تراثية حقيقية. فلماذا هذا الخراب العظيم الذي يهاجمنا ويحارب الجمال والإنسانية فينا؟

هذا الهجوم التتري الذي يعرضنا جميعا كعرب للانقراض أو ربما قد يحولنا لوحوش تأكل وتقتل باسم الدين، فليس الحل مجرد جولات ننتصر فيها ونرفع فيها رؤوس القتلى، لا الحشد الشعبي ينفع ولا غيره من قنابل وأسلحة، ولن تحل طائرات الأباتشي الأميركية مشاكلنا.

دولنا العربية المقهورة التي اجتاحتها الحروب بشراسة وبلا هوادة تحتاج لمراكز ثقافية وموسيقية للإصلاح الثقافي والأخلاقي معا، وحدها الفنون قادرة على مجابهة الإرهاب والتطرف والكراهية والتمييز.

الثورة الحقيقية التي نحتاجها ثورة من ياسمين يعزفها إيقاعٌ هرموني من صندوق وتري وأصابع تحكي الألم السرمدي مع أنغام بابلية لتعود السماء صافية هادئة من جديد .

يجب أن نعلم أنه لم يتبق لنا من التراث شيئاً سوى جدران موحشة لقصور عتيقة، شاهدة على إنسان كان يسكنها يوما. نعم أرى العود وغيره من الفنون أقوى الأسلحة لعودة الإنسان من جديد.

أيها العود العبقري ..

أين مني مجلس أنت به ** فتنةٌ تمت سناءً وسنى

وأنا حبٌ وقلبٌ هائمٌ ** وخيالٌ حائرٌ منك دنا

وقبل الختام أردت أن أحيي الرائع (نصير شمة) الأشوري الأخير، المحارب بلا سلاح، المناضل بعوده الخشبي السومري الذي مازال يرى العراق قصة حب شرقية، ومازال يعزف من القلب إشراقة أمل من أجل أطفال العراق، وما زال يرى العود بيتاً وهوية وثقافة عربية تستحق البقاء على قيد الحياة.

وأهديه أبيات الشاعر عبدالوهاب البياتي :

مدنٌ بلا فجرِ تنام

ناديتُ باسمكَ في شوارعها، فجاوبني الظلام

وسألتُ عنكَ الريح وهي تئن في قلب السكون

ورأيتُ وجهكَ في المرايا والعيون

وفي زجاج نوافذ الفجر البعيد

وفي بطاقات البريد

فلمن تغني؟ والمقاهي أُوصدت أبوابها

ولمن تُصلي؟ إيها القلب الصديع

والليل مات

والمركبات

ونحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب

نذوي كما تذوي الزنابق في التراب

فقراء، يا قمري، نموت

وقطارُنا أبداً يفوت.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى