إذا جُنَّ ليلكُ، فارصدْ

خاص (الجسرة )

 
*فتحي الضمور

 
ليست جزافاً تلك التسميات التي كانت تشيع على ألسنة الناس عموما، والعارفين بها على وجه الخصوص.فكما أنّ الأسود ملك الألوان، وأنّ الأسد ملك الغابة، فإنّ مقام ” الراست ” هو ملك المقامات، أو أبو المقامات.وهذا ما شاع عند أهل الفنّ،لما يجمع هذا المقام من حالة الإشباع الحسيّ عند المستمع، مهما كان نوع إحساسه الداخلي.فهذا المقام هوالجامع لكل ما يختلج النفس من الشجن، الحزن، الفرح، الفراق، الشوق؛ لذلك كان ركوز أغلب أغاني الزمن الجميل على هذا المقام. وإن لم يكن ركوزها عليه، تجد الملحن في أكثر الأغاني الشرقية يلجأ إليه،كوبليهات الأغنية أو في الجمل الموسيقية التي تلي المذهب، حتى يضفي على أغنيته النغم العذب.
والراست هو أول المقامات السبعة الأصلية في الموسيقى الشرقية. ومنهم من يلفظها بالصاد ” الرصد ” وتعود كلمة ” الراست ” إلى أصول فارسية، ومعناها المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. والراست أساس النغمات في التراتبية المقامية، وكان معروفا في العصر العباسي. وهو من المقامات التامة، لأنه الجذر الذي يتفرع منه كلّ شيء. وهو ذو طابع بسطيّ على حدّ قول القدماء، لأنّه يبعث على الانبساط والسعادة،وبالآه المسكونة بالشجن.ومن هنا جاء المثل الذي يقول ” إذا جُنّ ليلكَ فارصد. ” أي غنّ ما شئت على هذا المقام، فإنه يريح النفس، ويخفّف عنها وطأة هذه الحياة. أو اعزف من مقام الراست أيّا كانت حالة الشعور التي تنتابك.
والمتتبع لأغاني الثلاثينيات حتى أواخر الثمانينيات، يجدأنّ الكثير منها من مقام الراست،ومن جملة الأغاني على سبيل المثال لا الحصر: اسأل مرة عليا، ودع هواك وانساه، الناس المغرمين، حبيبك وبحبك، يا محلاكي، السبت فات، غريب يا زمان، انت مسافر، خليكو شاهدين، يا غالي عليا، أيوة تعبني هواك وياك، أنا قلبي إليك ميال، متحبنيش بالشكل ده،ماستغناش عنك، اسهر وانشغل أنا، ساعة ما بشوفك جنبي، على طرف جناحك،فكروني، على بلد المحلوب، رباعيات الخيام، غنيلي شويه شويه، أي دمعة حزن، قلي حاجة،معندكش فكرة، ليلية بترجع يا ليل، يا داره، من عز النوم، ورقو الأصفر، أسمينا، حاقبله بكره، ان كنت ناسي أفكرك، أوعدك، عالله تعود، أنا اللي أستاهل، يا حبيب الروح، عندما يأتي المساء، عنابي، إن حبتني أحبك أكتر، يا سلام على حبي وحبك، ليلة الوداع.وهذا غيض من فيض الأغاني التي تمّ تلحينها، وتأليفها الموسيقي من هذا المقام. وإنّ دلّ ذلك على شيء، فإنما يدلّ على أنّ نغمة الراست كانت ملاذ الملحنين، للتعبير عنوجدانهم وتجلياتهم، لدرجة أنها كان وما تزالتنال من أوتارهم، وتسكن أرواحهم. ورغم كثرة الأغاني هذه، إلا أنّهاما زالتمتجددة، كنهر لا ينضب.
وللراست مقامات فرعية منبثقة عنه، نذكر منها: ذكر مقامات السُزنك راست، نوروز راست، كردان راست، دُلنَشين وسُزدلارا، الرهاوي، السازكار، الماهور، النيشابورك، اليكاه، وأسماء أخرى.
وفي حوار مع الملحن البديع، الأسطورة بليغ حمدي، الذي لحن مئات الأغاني لكبار المطربين والمطربات، سئل عن أحب الأغاني إلى قلبه، فأجاب: ” أي دمعة حزن لا ” وهي على مقام الراست.
كما أنّ الكثير من المقرئين يفضلون استخدام الراست في تلاوة القرآن الكريم، لذا نجد أكثر أئمة الحرم المكيّ والمدنيّ يقرأون على هذا المقام الذي يجعل الكلمة أكثر تأثيراً على المستمع.وله نصيب الأسد عند المؤذنينن كما هو الحال في أغلب الأناشيد الدينية.
إن الحديث عن مقام الراست يطول، وبحاجة إلى دراسة مستفيضة، بالقدر الذي يليق بملك المقامات، وسحر أنغامه ودرجاته القريبة البعيدة. وبقدر ما هو مقام السهل الممتنع، العصيّ على التعريف في مادة كهذه، لذا سأنفرد بدراسة عميقة ومستفيضة عن الراست الذي لا يستكين ويهدأ من جنّ ليله إلا به.

 

*كاتب وموسيقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى