«بالنسبة لبكرا شو» في دمشق: فيلم زياد الرحباني عن حربين في بلد واحد!

سامر محمد اسماعيل

تنتهي عروض المسرحية ولا تنتهي الحرب التي تكلمت عنها، تعود فيلماً سينمائياً لتحكي عن أوجاع بشرٍ تورطوا أيضاً في شراكها منذ أكثر من خمس سنوات، من دون أن يجدوا مسرحاً أو أغنية تعبّر عما يعيشونه بصدق ودون مواربة. تقول ذلك جماهيرية متزايدة حظيت بها برامج إذاعة «شام إف أم» التي واظبت منذ اندلاع الأحداث في سوريا على بثِّ أغنيات ومسرحيات زياد الرحباني، مرفقةً بـ «فيروزيات الصباح والمساء». راديو الموجة القصيرة الذي بنى شعبيته بذكاء على تناص مع أغنيات ومسرحيات الحرب الأهلية اللبنانية، مسقطاً حواراتها الساخرة على واقع حال البلاد، أعطى مؤشراً خطيراً على جدب المخيلة السورية وشللها المزمن عن التعبير.
واكب ذلك حضور الجمهور السوري اللافت للنسخة السينمائية من مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» في صالة «سينما سيتي» بدمشق، فمنذ انطلاق عروضها أواخر نيسان الماضي، طرح الفيلم الذي أنتجته شركة «أم ميديا» أسئلة كثيرة عن أسباب عدم وجود عمل فني واحد يستطيع تحقيق إجماع لدى كل السوريين، كما هو الحال لدى أعمال زياد الرحباني المسرحية، والتي كانت بمثابة «مانفيستو» لشرائح كبيرة من مريدي اليسار السوري، أو ممّن ترنموا بأغنية «رضا» بصوت منشدها الراحل جوزيف صقر دفاعاً عن فن الحياة في زمن الطفر وقلة الزاد.
زياد الرحباني وجهٌ نحيلٌ بملامح حادة لجسد يكاد يهرب من حمل أفكار صاحبه، يقول المخرج السينمائي جود سعيد ويضيف: «حمل هذا الرجل الحرب الأهلية في لبنان في عقله وأفرغها في موسيقاه ومسرحه سخرية سوداء من كثرة ما أوجعت قلبَه! لقد كان نتاجاً شديد النقدية لم يوفّر تياراً سياسياً أو مجموعة عسكريّة إلا وجرّدها من ثيابها لتمرَّ عاريةً، تلسعها شخوص مسرحه على قفاها ذات اليمين وذات الشمال، معلنةً بوضوح عدم انتمائها لمجتمع احترف الدم وسيلةً للعيش»..

الزياديون
صارت «مسرحيات زياد» بالنسبة إلى السوريين، زمن الحرب اللبنانية وبعدها، تراثاً صوتياً «سمعها السوريون مسجلةً فأغلبهم لم يشاهدها»، يتابع صاحب «بانتظار الخريف» شارحاً: «البعض يستمع إلى «زياد» من أجل الترفيه والضحك، أما «الزياديون» فيستمعون لمسرحية مثل «فيلم أميركي طويل» كتعبير عن انتماء أيديولوجيّ مفرّغ من مضمونه، لا أعمّم هنا، لكن أكيد أن هناك من قرأ هذا النتاج بوعيٍّ معرفيٍّ وتلمّس فيه هشاشة هذه المجتمعات، وميلها للتفكك وحروب الهويَة عند أوّل هزّة حقيقية».
هذا «التراث» كما يشرح سعيد: «لم يلهم هؤلاء إيجاباً في حربهم اليوم، فهل من تجربة مماثلة بعد خمس سنوات من الحرب؟! مسرحاً؟ لا… موسيقى؟ كذلك الأمر ما خلا محاولات هنا وهناك لم تؤسس لمشروع فنّي تناول المأساة السوريّة لحناً وكلمة أو حتى عبر أحد فنون الأداء، أداء يشي باستمرارية يصرّ على مواجهة الدم بالفن الساخر، لنلاحظ أن السخرية «النقدية» ممّا نحن فيه كسوريين تكاد تكون خطاً أحمرَ عند الجميع».
ربّما تحاول السينما السورية ذلك مواربةً وخجلاً، يوضح جود سعيد: «من هنا أسأل: يُعرض حالياً في سينما سيتي شريط بصريّ (كي لا أسميه فيلماً فهو شديد الرداءة صورةً وصوتاً وأعتقد أنه يسيء فنياً للعمل الأصليّ) عبارة عن تجميع من عدّة عروض لمسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» هذا الشريط يستقطب السوريّ لمشاهدته وربما محاكاة حال بلده من خلاله، وهنا سؤال آخر: أين المحاكاة الفنية السورية للحدث؟! أين الصوت المتفرّد القادر على بناء تجربة جمعية خاصة، لا أقول شبيهة، فالظرف مختلف وأشكال التعبير اختلفت أيضاً ..أكرّر، بعيداً عن رداءة الشريط البصري الذي يُعرض لأسباب تجارية بحتة، ولكن تقول لنا هذه التجربة كاستمرارية متكاملة واكبت الحرب عبر مسرحيات وألبومات غنائية عدة؛ أننا لم نستطع كفنانين سوريين الدفاع عن إنسانيتنا بفنٍّ يدوس هذه الحرب».
رأي لا تؤيده فيه سناء علي، مقدّمة ومعدّة البرامج في إذاعة «شام إف أم» والتي تخبرنا أنها وزملاءها في الإذاعة ذهبوا جميعاً لمشاهدة المسرحية التي لطالما حفظوا حوارات شخصياتها «زكريا وثريا ونجيب والخواجة عدنان» عن ظهر قلب: «زياد كان دائماً صديق ذاكرة السوريين ومزاجهم، ربما لأنه كان يعبّر بأسلوبيته الفريدة والمدهشة عمّا يجول في خواطرهم، ويشرح بطريقة كوميدية ساخرة واقعاً يشبه إلى درجةٍ كبيرة ذاك الذي اختبره أشقاؤهم اللبنانيون. وعلى الرغم من رفض السوريين لوصف ما يحدث في سوريا على أنه حرب أهلية، إلّا أنهم يحترفون الاقتباس من مسرحيات زياد عامة ومسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» على وجه الخصوص، وكأنه كتبها خصيصاً لهم»!
أعرف صديقاً يستمع إلى هذه المسرحية في عمله وحتى أثناء قيادته لسيارته، تعقّب سناء علي مردفةً: «عندما عُرضت المسرحية – (الفيلم) في دمشق شاهدناها جميعاً وكأننا نستمع إلى تلك العبارات المتهكمة والواقعية في آن معاً وكأنها المرة الأولى، كانت الأفكار والعِبر التي اعتصرها «الرحباني الابن» من زمن الحرب الأهلية اللبنانية وترجمها على شكل عمل فني، تخترق أسماعنا وقلوبنا وتضعنا وجهاً لوجه أمام واقعنا المرير، وما آلت إليه حالنا، فخلال قرابة خمس سنوات ونصف سنة من الحرب أو الأزمة أو أياً كانت التسمية، لم ينجح أي عمل فني سوري بجذب جمهور البلاد إلى صفِّه في مواجهة أعمال الرحباني التي تحاكي حرب بلاده الأهلية، وإذا وضعنا عبقرية «زياد» واستثنائيته جانباً، فليس هناك مبررٌ واحد حقيقةً لعجزنا كسوريين عن تقديم منتج فني من أي نوع كان، غنائي أو درامي أو حتى موسيقي يضاهي ما صنعه زياد ويُشرعن اتّكالنا واكتفاءنا بما قدّمه هذا الفنان اللبناني لبلده لنستعين به للتعبير عمّا يحدث في بلدنا اليوم»!
البعض تعجبه فكرة استسهال التبرير والقول بأن الحرب جرّدتنا من القدرة على الإبداع، وسدّت علينا أبواب المناخات المؤاتية للخروج بأعمال من السوية نفسها أو بما يقاربها، تضيف سناء: «لكن إذا قلنا إن زياد هو حالة فريدة صعبة التكرار، فكيف إذاً كانت أعظم الإنتاجات الفنية والثقافية الأخرى عبر التاريخ وليدة الحروب والأزمات وما بعدها؟ قد يكون السبب الحقيقي أو التبرير الأكثر منطقية هو أن سقف التعبير والحرية الفكرية والقدرة على تسمية الأشياء بمسمياتها من دون تلوين أو مواربة، لم يصل إلى العتبة التي تجعل الفنان السوري منافساً لما كان يعتبر ملعباً واسعاً لزياد الرحباني وأداة طيّعة في يده».

حطموا أرواحنا
هناك أزمة في جيناتنا كما يبدو، يقول عبد الله مصطفى القصعة، الطبيب الذي استمع إلى المسرحية الرحبانية مراراً على أشرطة الكاسيت، شارحاً وجهة نظره بسماع السوريين لأغنيات الحرب اللبنانية ومسرحياتها التي انقضت منذ قرابة أربعين عاماً: «لقد أبدع اللبنانيون كل هذا الجمال في عزِّ حربهم الشعواء، وما زالت تشاركنا أفراحنا كسوريين. اليوم في أتراحنا لا نجد ما يعبّر عن حالنا إلا تهويمات زياد وفلسفته الخاصة به، للأسف بتنا نكتشف عاماً بعد عام، وأزمةً بعد أزمة، أننا مُقفرون، فأنا لا أرى خصوصية سورية لجهة تعاطينا الثقافي مع أزمتنا. تصوّر لقد توسّلنا من يغني لنا في بداية الكارثة، فلم نجد إلا لبنانياً، وعدنا لدفاترنا القديمة فنفضنا الغبار عن بعض «الأوادم» الذين أسمّيهم كذلك لأنهم لم يلقوا بالاً لظلم وتهميش حاق بهم وقبلوا المشاركة في ما عرض عليهم».
أظن أن هذا يعود إلى ما وجدنا عليه آباءنا، يضيف الطبيب الأربعيني: كان انضباطاً صارماً ونادراً لم تكن تفلت منه حتى العصافير. مناهجنا المدرسيّة حطمت أرواحنا، حِصص الموسيقى والرياضة والفنون باتت كلها اليوم مخصصة للرياضيات والفيزياء كبديل من ساعات التقصير في إعطاء المنهاج، وبالنتيجة لم نخرّج أينشتاين ولا دافنشي، بل بقينا نؤدي الحياة على أنها واجبٌ مدرسيّ لا أكثر».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى