«منازل الوحشة» للعراقية دنى غالي: خراب الأمكنة… خراب الذات

جميل الشبيبي

تسرد رواية «منازل الوحشة» ـ دار التنوير 2013 للعراقية دنى غالي سيرة امرأة معذبة تحاول أن ترمم خراب بيت متداع من خارجه، بفعل قوى خارجية متجبرة متمثلة بمحتل أجنبي لبلدها، وقوى متنازعة من داخله تأتي على ما بقي من شواخص وأحلام ليحل الخراب الكامل.

لسان النافذة يتكلم

تدور معظم أحداث هذه الرواية في البيت الذي يقع في مكان منزو من المدينة الكبيرة، وتبدو الشوارع القريبة من البيت صامتة لا حركة فيها، وكذلك البيوت الملاصقة، سوى أصوات زعيق السيارات من بعيد وأصوات الانفجارات والطائرات، أما مجال الرؤية فهو النافذة المظللة بالستائر، والسياج المنخفض الذي عمد ساكنو المنزل إلى تعليته.
تتجلى النافذة عينا يقظة تراقب، وتتفحص، فهي لسان تروي قصصا شتى عن هذا البلد «تغلق تفتح تطين تسرق تردم»، وهي وسيلة الساردة في التعرف على خارج بيتها، الذي يبدو ملغوما تسكنه الأصوات الدالة على احتدام معارك، وضجيج العجلات الحربية بشكل مستمر.
والنافذة في الأعراف الشرقية وسيلة الأنثى في التطلع إلى الخارج، بحكم التابوات الكثيرة التي تمنعها من الاختلاط بالناس. وفي هذه الرواية تشير الساردة إلى الماضي الجميل الذي تمثله النافذة، أو الأسيجة ذات الفتحات الكثيرة حين «كان زمنا جميلا أتابع عبر ثقوب سياج السطح الأول للدار ما يدور خارجا، مرور موكب جنائزي لشهيد (….) يجذبني تارة صخب عرس وانحشار طابور سيارات مع عزف المنبهات في الزقاق الضيق».
النافذة هنا مغلقة بألواح الخشب كتعبير عن الانقطاع عن عالم الخارج المعادي، وعلى الرغم من ذلك يختطف زوجها أسعد ويذوق مرارة الاختناق في صندوق السيارة وهو يشعر بحيف «لأنه كان وفيا ورغم ذلك يبقى مدانا (…) يقول إنه خدم بكل ما عنده من إخلاص وحب»، ولأنه تعرض إلى مرارة الاختطاف والتعذيب النفسي أصبح «إنسانا معطوبا يسير في البيت مثل آلة».

بغداد ذبيحة خرجت أحشاؤها

تستعيد الرواية أحداث عام 2006 خلفية لهذا الخراب الذي يطال الشخصيات: الساردة التي تتشبث بآمال واهية وأسعد الزوج الذي أصبح آلة في البيت وسلوان الابن الذي شب مريضا لا شفاء له!
يكتب أسعد الزوج معبرا عن هذه المحنة «بغداد مثل ذبيحة خرجت أحشاؤها فأثارت معدتي، كل شيء آخذ بالتعطل في ظل إيمان واه غريب بالأمل، لسنا سوى أهداف مجانية والمارة مفخخات حسب، بينما يطبل الجميع لحريتنا».
تستثمر الروائية دنى غالي ذاكرة لأحداث منتقاة وعبارات تلخص أحداثا أخرى جرت في أعوام الانفلات الأمني قبل عام 2008، لتصبح الرواية مجموعة من الإنشاءات اللفظية التي تجعل فضاءها يضيق بعباراته الإنشائية الخالية من أحداث خارج حياة الساردة اليومية والسرد البطيء الذي يصف الحياة اليومية للعائلة التي تستغرق صفحتين أو أكثر مثل تعلمها زرق الإبر أو وصف بار أسعد الذي ألغاه وهو من هواياتها المحببة، وهناك حديث وذكريات عن مرض ابنها سلوان ومحاولته الانتحار في معظم صفحات الرواية، ولتصبح الرواية بشخصياتها المحدودة (أربع شخصيات فاعلة) في نهاية المطاف وكأنها مجال للترميز يسرد بتكثيف شديد محنة شخصيات أخلصت لبلدها في عهوده المتقلبة الساخنة، وحين يأتي التغيير المرتقب توضع في خانة ضيقة ويحجر عليها بمسميات عدائية متنوعة.
يتضح ذلك من انحسار المكان على بقعة صغيرة متمثلة في البيت، أما مدينة بغداد التي عبر عنها أسعد بأنها ذبيحة خرجت أحشاؤها فتبدو بعيدة عن الأحداث سوى أصوات الانفجارات وأخبار بسيطة عنها، بسبب ابتعاد المؤلفة عن بغداد والمدن العراقية الأخرى لوجودها في المهجر، ما سبب انحسار الأحداث لصالح الإنشاءات المجازية والتعليقات التي تعطي موقفا من الحدث وتستشرف أبعاد الموقف الإنساني لتبدو الرواية رمزا عن تشكيل سياسي يساري كان له دور فاعل في الحياة السياسية العراقية خلال عقود طويلة من القرن العشرين.

البديل معطوب وتائه

من أهم إشكاليات هذه الرواية عطب الجيل الجديد فيها متمثلا في الابن سلوان، الذي يمثل مستقبل العائلة، أو البديل المرتقب الذي سيجدد الحياة، لكن الروائية لم ترد أن تطلق صوته تجاه الأمل والمستقبل الخيالي، بل أنصتت إلى وقائع الحياة التي تسير بالضد من أفكار هذه العائلة، وتمرد الجيل الجديد فيها على نمط حياتها وأفكارها وتطلعاتها «جيل لم يلمس غير التشتت والزيف، جيل رأى خرابا ومدينة كانت في أبهى صورة تريفت» كما يقر أسعد الأب. أما صوت سلوان الابن فهو صوت مشروخ مشتت ليست لديه ثوابت، ويعاني من عقدة الاعتداء الجنسي عليه، وفي حياته في بيت أبيه، يبدو منقطعا عن الحياة ومنشغلا مع فأره، وحين تفرد الروائية لصوته حيزا، فإنه يسرد تفاصيل عن هامش الحياة يرى فيها كوابيس واعتداءات لا حدود لها.
ومثال سلوان الأعلى شخصية سونيا بطلة رواية «الجريمة والعقاب» لدوستوفيسكي وهو يتأمل طويلا في اختيار مؤلف الرواية لاسمها من بين ملايين الأسماء، وهو يتوقف عند فكرة هي من أساسيات تفكير الأنثى ولكن المؤلفة تضعها على لسانه فتبدو نشازا على تفكير فتى متمرد حتى على قوانين أهله: «إنهم يدربون الذكور على الافتراس كما يدربونها على أن تتقن دور الفريسة المثالية»، ثم يهجو الرجولة العشائرية في شخص رجل كان يوزع الحلوى والعصير «احتفالا ليس بنجاة ابنه ذي الخمسة عشر كما قيل، بل لأن الشرطة أمسكت به وهو يغتصب مومسا في سيارة مسروقة»، وهي انثيالات وأفكار جديرة أن تفكر فيها امرأة وليس شابا يعيش طورا من الضياع والمرض والعصاب المستعصي على الحل».

منولوج طويل للأنثى

في هذه المقاطع والعبارات، نلاحظ أن الساردة/ الروائية قد وزعت صوتها على شخوص الرواية ـ باستثناء صوت أمها ـ لتصبح الرواية صوتا مونولوجيا أنثويا، ويكون صوت الرجل فيها صدى لصوتها، عبر رسائل وحوارات معها، الأساس فيها ضمير المتكلم الذي يدشن صوت الساردة، ويلغي حضور الرجل في الرواية الذي يمثله أسعد وسلوان الابن، وكلاهما غائب عن الحياة الفعلية، لكن أسعد الزوج يبدو حاضرا وفاعلا في ذكرياتها الشبقية التي تسردها بحيوية بالغة تكسر أفق السرد الممل في العديد من صفحات الرواية، وتتألق صعودا في دروب النشوة «جفاف يطلب ماء، وهو ينضو ملابسي عني ويركض ابتهاجا مثل طفل في بستان، لوحده يقترب من نفسه ويبتعد، يغيب بين عيدان العشب العالي ويغطس في الخضرة في وضح النهار….». وفي مقاطع أخرى تتضح رغبة المرأة بشكل صريح وهي توجه الذكر إلى مناطق الإثارة في جسدها أو وهي ترشده للسلوك الذي ينبغي له أن يقوم به ليمتلكها «عليه بالثرثرة، ليفصل رأسي عن باقي جسدي، عليه أن لا يستأذنني..».
وتستدعي الزوج أيضا في نهاية الرواية عبر مذكراته التي تتوقف فيها عند مشهد العلاقة الجنسية بين زوجها وزوجة جارهم عبر تفصيلات وصور وحوارات شبقية بينهما، لتنتهي الرواية بهذه المذكرات.

تسيد الريف
على أفق المدينة

على الرغم من انشغال الساردة بالتفاصيل الحياتية والبيتية المملة، إلا أنها جسدت عبر ذلك فكرة تسيد عقلية الريف في مدينة كبيرة لها تقاليد وأعراف، ويتجلى ذلك في شخصيتي أم الساردة وابنها سلوان، الأم تبدو في الرواية شخصية فاعلة في لغتها وفي قراراتها فهي امرأة قوية الشخصية لا تخضع حتى لأزواجها الثلاثة من خلال فكرة التمرد على أخلاق العشيرة، إذ تنعدم السلطة الأبوية ضمن نظام المدينة السائب، لتكون بديلا عن الأب الغائب، وهي تستثمر الحرية السائبة في المدينة لتصبح قادرة على اكتشاف نظام المدينة الجديد الذي يحكم بعقلية ريفية عشائرية منزوعة النخوة والعدالة التي كانت تميزها، إذ تستطيع من خلال صفقة مالية أن تخلي سبيل زوج ابنتها أسعد الذي اختطفته مجموعة من أفراد ينتمون إلى ميليشيات تبتز الناس بقوتها، والأم توجه انتقادات إلى الساردة حين تلاحظها تحتسي الخمرة «لم تنظر صوبي ولكنها قالت بوجه يعلوه الاشمئزاز من الرائحة إني دائخة وإن شربي للكحول لا يليق ببنت مؤدبة بنت عائلة مثلي، هو آخر ما تتوقعه مني». والأم لها حكمتها أيضا من خلال تجاربها مع الرجال تؤكدها بالكلام والإشارة «الموضوع كله هنا» وهي تشير مجددا إلى أسفل بطنها «الحكم والسياسة والأمراض والأجرام والفقر».
ويظهر سلوان من خلال الصفحات المخصصة له، شابا لا يؤمن بشيء، متمردا على شروط حياته. العالم من حولي مجموعة الأشياء غير المنسجمة مع بعضها مثلي تماما». ويقول في مكان آخر عن الجامعة «الجامعة التي أجبرت عليها لم تكن المكان الذي تصورته» ثم يصفها «تحولت أروقتها إلى أرصفة وأكشاك للبيع مثلما تحولت بغداد حينها». وهو يتمرد على أبيه ويسميه باسمه، كما أنه يعيب عليه تخليه عن مبادئه وأفكاره ويعتبره جبانا «ألاحق أسعد باعتراضي على الحياة، على أفكاره التي تراجع عنها لجبنه. اختفى أصدقاؤه وانحشرت أمي في شق ضيق بين الماضي والحاضر بيني وبينه وأطبقت الأبواب علينا».
ثم يلخص وجهة نظره في الحياة «ما قيمة الحياة إنها محض حياة قد تعود إلى فأر، أو حشرة، لا أحد سيشعر باختفائه، باختفائها لو دعس، لو دعست. الظلمة إنما هي داخلي الذي أخاف أن تتركني وحيدا معه».
إن شخصيتي الأم التي عبرت من الريف إلى المدينة وسلوان الابن الذي نشأ فيها، تجسدان نظــــاما متذبذبا لا تحكمه أعراف المدينة ولا الريف، تضيع فيه الحدود والمبادئ، وتتسيد فيه الفوضى، والشخوص الذين لا تاريــخ لهم ولا جغرافيا شخوص تتحكم فيهم نزواتهم، ويخضعون لقوى خفية تروم التدمير والتدمير فقط.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى