” عبّود سعيد ” .. من منبج الى برلين بـ “ملابس الشغل” !

خاص (الجسرة)
*إبراهيم جابر ابراهيم

 

حين كان ” غسان كنفاني” يكتب مقالاته النقدية الساخرة في جريدة “الأنوار” اللبنانية أول السبعينات باسمه المستعار ” فارس فارس”، كتب مرةً أن الحرب أنقذت القارىء العربي من رواية ركيكة كان يستعد الصحفي “مصطفى أبو …” لنشرها، لكن مسودَّتها الوحيدة احترقت في سيارة طالها قصف الطائرات الاسرائيلية !
للحرب إذاً، وللطائرات، دورٌ نقديّ . حيث يتكاثر الأدباء حيثما اشتدَّ القصفُ، وينمو الشِعر بغزارةٍ على أنقاض البيوت المهدَّمةِ أو حوافّ المقابر.
لا أقول بالطبع إن الحرب كانت ضرورية في سورية ليصير “عبود سعيد”، عامل ماكينة اللِحام في “مخرطة الحدادة” عند شقيقه الاكبر، كاتباً معروفاً يقيم حفلات توقيع في ألمانيا حيث يقيم الآن، ويترجَم خلال 4 سنوات الى 8 لغات !
لكنّ الحرب، كما الزلزال، تخضُّ الراكد، وتزيح الرمل عن المعادن الثمينة، وتفلقُ الأرض اليابسة ليخرج من شقوقها ما كان مطموراً.
كان الفتى الفقير يعتقد ان “منبج” في ريف سوريا آخر حدود العالَم، حتى جاء التلفزيون الألماني ليجري مقابلة مع هذا الكاتب الناشىء حينها الذي أطلق على نفسه لقباً مثيراً للجدل “أفهَم واحد على الفيسبوك” ! والذي صار لاحقاً عنوان أول كتاب له ترجمته ونشرته دار ألمانية عام 2013. ثم غادر الى تركيا مع النازحين ليصل الى ألمانيا، التي لقَّبته أوساطها الثقافية بـ “بوكوفسكي العرب” نسبة للكاتب الألماني العبثي الشهير.
كانت تجربة نادرة، لم يسبقها قبل ذلك بهذا الشكل عربياً سوى تجربة المغربي “محمد شكري” الذي عملَ نادلاً في مقهى قبل أن يبلغ العاشرة، ثم عتَّالاً في السوق فبائع جرائد وماسح أحذية ثم بائعًا للسجائر المهربةقبل أن يدخل السجن صعلوكاً أمّياً في حوالي العشرين من عمره، ليتعلّم القراءة والكتابة ويؤلف سيرته الفاضحة “الخبز الحافي” التي صارت أشهر الكتب الممنوعة عربياً، ليصير بعد عددٍ من الروايات كاتباً عالَمياً !
ما زال “عبود سعيد” مرتبكاً، لا يفهم ما الذي حدث له. ولا يبدو سعيداً في “برلين” أكثر ممّا كان في قريته التي تفتك بها القذائف الآن، ربَّما لأنَّه شكَّل ــ دون قصد ــ حالة نموذجية للمثقف العضوي، في اشتباكه الكامل والفريد مع أدقّ التفاصيل لطبقته ومجتمعه، ولا زال يريد أحزانه طازجةً وأن يراها مرأى العين، وأن يشمَّها، لا أن تصله بالبريد ورسائل “الإنبوكس”. ما زال متوتّراً، وربما يشعر بالخجل أن ذيوع اسمه ترافق مع حربٍ غير مفهومة ويتعذَّر عليه شرحُها !

في “منبج” كان حرّاً يشتم من يريد ويسخر من نفسه ومن فقره ومن حياته البريّة، يكتبُ بفجاجةٍ ويعيش بها، ولهذا أحبه الآلاف وكانوا ينتظرون أي عبارة أو نص له على صفحته ليحتفلوا به، ويتناقلوه، .. لم يكن يكتبُ شيئاً مهماً من وُجهة نظر النقّاد، او حتى من وجهة نظره، فربما نسج نصَّاً طويلاً عن ” مخرطة الحدادة ” أو عن جارتهم العابثة أو عن شجار شقيقه مع زوجته، لكن ما الذي يريده الناس في زمن الحرب والجوع واللجوء سوى أن ينتبه أحد ما لهذه التفاصيل، ويقيم لها وزناً، يريدون من يكتب عنهم حتى ولو ساخراً وفاضحاً، ويضحكون من شتائمه لهم .. لأنه ينبش ما لا يجرؤ واحدٌ منهم على نبشه؛ فهو الذي يسخر من نفسه ومن النظام ومن المعارضة ومن حياته المزرية في “منبج” النائية حين يقول ( لا أحد في عائلتي يطرق باب الغرفة على الآخر حين يدخل . فكلّنا نقيم في غرفةٍ واحدة ).
..
“عبود سعيد” هو الهامش الذي تحول الى متن، وجعل كل شيء قابلاً للسخرية والتشريح، لا مقدسات لديه يتورَّعُ عن التنديد بها، لم يُخطِّط كي يصير كاتباً عالمياً، بل ربما كان أقصى ما يحلم به أن يستطيع شراء سجائره بانتظام وأن يسمح له شقيقه بساعتي استراحة بين مطارق الحديد ليكتب أو ليغسل “ملابس الشغل” !
..
لكنَّ العبقرية فضيحة لا يمكن كتمانها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى