«مجرم جاسوس في رأسي» لكيفن كوستنر.. الذاكرة الراضخة

محمد بنعزيز

في فيلم «الرقص مع الذئاب» 1990 كان كيفن كوستنر راعي بقر مسالما تجاه الهنود الحمر. في «درافت داي» (Draft Day 2014) كان مديرا فنيا حكيما لفريق كرة قدم أميركي يدير ويدرس ويتخذ القرارات الصحيحة تحت ضغط الزمن والإكراهات. فيلم اشتغلت فيه ملامح كوستنر كثيرا لأن الكاميرا كانت مسلطة عليه طيلة الوقت. أما في فيلم «مجرم جاسوس في رأسي» (أيار 2016) فيؤدي دور مجرم لم يميز قط بين الخير والشر. لا أحاسيس له. لا يخمن أبدا نتائج أفعاله. كل أشكال العقاب لا تردعه، لا يعرف الشفقة ووجهه ينذر بالشر… هكذا قدم المخرج أرييل فورمان شخصيته الرئيسية دفعة واحدة ومن الدقيقة الأولى. وماذا بعد؟

نقل الذاكرة
بعد عملية جراحية معقدة وعاجلة نُقل بطل الفيلم واسمه جريكو (كوستنر) من أميركا إلى لندن. لقد قُتل جاسوس أميركي على صلة بهدف كبير. جاسوس كفء مكلف بمطاردة هولندي يملك سرا خطرا، يريد الهولندي الشاب أن يعامل مثل إدوارد سنودن، يريد لجوءاً آمناً وعشرة ملايين دولار «كاش» فورا.
حصل الهولندي على معلومات عسكرية وعلى قن سري للتحكم في الصواريخ. هذه جريمة مركبة، فيها قرصنة معلومات وخطر عسكري وحسابات سياسية وجراحة تجريبية. يدحض الفيلم فكرة نهاية الحرب الباردة. يعمل الجاسوس الأميركي في أوروبا لحماية أمنها. ولهذا دلالة سياسية كبيرة مع تعرض أوروبا للإرهاب والتفكك وهي تتناسى تاريخها الدموي في القرن الماضي.
موت جاسوس لا يعوض، لذلك تمّ زرع مخه في رأس مجرم متمرس قادر على إتمام المهمة من دون قطيعة. تم استنساخ الجاسوس في بدن مجرم للحفاظ على ما تخزنه الذاكرة. لقد شاعت عمليات زرع الأعضاء، وغالباً ما تنقل الرئة أو الكلى أو البنكرياس وهذه قطع غيار بلا معنى. لكن لزراعة المخ بعداً آخر. للمخ ذاكرة، لذا تمّحي ذاكرة المجرم السابقة وتحل محلها ذاكرة جديدة. ذاكرة جاسوس لديه ولاء تام للنظام. على المستوى الشخصي يجد المجرم نفسه أمام طفلة وامرأة تعود لرجل آخر لكن يعرف سرها العاطفي ويدهشها ذلك. يضعف المجرم أمام الطفلة أكثر مما يضعف أمام أمها الغلامية التي تعشقها الكاميرا حين تلاعب الرياح تنورتها.
بنقل الذاكرة من شخص لآخر صار الفرد يعامل كجهاز حاسوب، يمكن نقل ذاكرة من حاسوب إلى آخر وتبقى المعطيات نفسها مهما كان الشكل الخارجي للحاسوب أو الهاتف أو اللوحة. ينطبق ذلك على البشر. يمكن نقل مخ ميت إلى شخص حي فتمّحي سلوكاته السابقة ويتبنى سلوكات وذاكرة الميت ويخدم أسياده بالطريقة نفسها.

الإيقاع
يقدم الفيلم صراع الدولة في مواجهة الإجرام والفوضويين. يبدو أن الدولة تفضل التعاون مع المجرمين ضد التوجهات السياسية الفوضوية الثورية العابرة للحدود.
إما النظام أو الفوضى. لا خيار ثالثا. كل طرف يجند كل ما يستطيعه لهزم الآخر. يستقطب النظام المجرم لمنعه من خدمة الفوضويين. المجرمون عقلانيون ويمكن التعاون معهم تبعا لمقياس الربح والخسارة بينما الفوضويون لا يمكن توقع ردود أفعالهم. هذه خطاطة كونية قابلة للتطبيق محليا في كل بلد.
صُوّر الفيلم في لندن، شوارع وأنفاق وعمارات، انبعاث البطل من قاع نهر التايمز. تصوير مدهش لحركية مدينة صارت بمثابة شخصية في الفيلم. في المطاردات ترافق الكاميرا العنصر المصور، يتحركان في الاتجاه نفسه فتبدو السيارة والطائرة كأنهما متوقفتان. كل ذلك في لقطات قصيرة بكاميرا محمولة تضمن إيقاعا سريعا للفيلم. لا يحتاج مخرجو الأفلام التجارية إلى التشبه بسينما المؤلف التي تقدس اللقطات الطويلة الملتقطة بكاميرا ثابتة والتي تسبب الملل.
سيطر اليساريون على سينما المؤلف. وقد منعت كراهية أميركا الرفاق من الاعتراف بأن هوليوود مختبر للإبداع. وقد أثر هذا الوضع على السينمائيين الشبان الذين تجاهلوا ان هناك الكثير الذي يجب على سينما المؤلف تعلمه من السينما التجارية. النجاح التجاري للفيلم ليس شتيمة. لم يتقادم أداء كيفن كوستنر وهو الذي صنف فيلمه «الرقص مع الذئاب» كفيلم مؤلف استحق أوسكارين. وبفضل موهبته فقد حبب لي كوستنر نوعا من الأفلام لا أحبه عادة. يحتفظ العمالقة بلياقتهم الفنية والبدنية لوقت طويل.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى