يوسا.. روائي نسي أفكاره

ت:داليا قانصو

 

حتى بالمقارنة مع أكثر الوجوه الأدبية استثنائيةً من أبناء جيله في أميركا اللاتينية، تمتّع ماريو بارغاس يوسا بمسيرةٍ مهنية لافتةٍ بضخامتها. برغم أنه يصغر غابريال غارسيا ماركيز، الاسم الأكثر سطوعاً من بينهم، بتسع سنوات، غير أن روايتيه الأوليين، تركتا تأثيراً صاعقاً على الأدب اللاتيني، في الوقت الذي كان فيه مُعاصره لا يزال يبحث عن أسلوبٍ سيحمله إلى ما وصفه يوماً بـ «نوبة من الشهرة».
في ذلك الحين، كان بارغاس يوسا قد أخذ حصته من تلك «النوبة» في موطنه، البيرو. روايته الأولى، «عصر البطل»، التي صدرت في العام 1963 حول سنوات دراسته في «الأكاديمية العسكرية الأولى» في ليما، استفزت تلامذتها ليحرقوها، وجنرالات عديدين ليتهموه بالعمالة لحكومة الإكوادور. أما روايته اللاحقة، «البيت الأخضر» (1966)، وهي وليدة خيال «فوكنرية» (نسبةً إلى الروائي الأميركي ويليام فوكنر) حول منزل لبائعات الهوى في ضاحية بيورا، مستخدما فيها تقنية معقّدة للتنقل بالزمن جعلت الماضي والحاضر جزءاً من وعي واحد متزامن. هي تقنية صعبة، متفوقة بعصريتها، عاد بارغاس يوسا واستغلها طوال مسيرته المهنية عندما يتمكن من ذلك، فهي تخدمه بأنها تسمح له بتخطي ثقل شكليات الـ «فلاش باك» (الارتجاعات).
واسعةٌ هي العدسة الاجتماعية لهذا الكاتب البيروفي، حائز جائزة «نوبل» للآداب في العام 2010 . لا أحد يفوتها، من «الكولوس» Cholos (سكان البيرو الأصليين)، إلى رجال الأعمال والأرستقراطيين، إلى الثوار والغرباء والسياسيين والمدانين والمحكومين. أما كتاباته عن موطنه اللاتيني، فقد تكون قاسيةً بطعم مُر، طعم التاريخ الظالم. هكذا يصف فتيات «الكولوس» المختطفات في رواية «البيت الابيض» وهن يطقطقن أسنانهن في الدير كـ «قرود الماكيسابا عندما تُحتجز في قفص».

سجن باديلا
لنصف قرنٍ على الأقل، بنى فارغاس يوسا لنفسه مكانةً وسط المثقفين، وسط المؤرخين، ومن ضمن أمور عدة، كان لافتاً تحوله من ماركسي رومانسي ومؤيد مفتون بفيدل كاسترو الثورة الكوبية، إلى معجب شرس بميلتون فريدمان والرأسمالية العالمية، والفعالية المفترضة للأسواق الحرة.
هذا المفكر ليس واضحاً تماماً متى فقد «ميله لليوتوبيا السياسية»، كما يضعها بمفرداته. لعبت خيبته من كاسترو حين سجن الشاعر هيبيرتو باديلا بالتأكيد دورها في ذلك. في العام 1968، باديلا، الذي كان قد انتقد الزعيم الكوبي في بعض أبياته، حصل على جائزته الأدبية برغم معارضة كاسترو. طلب الزعيم الكوبي من لجنة الحكم الدولية تبديل قرارها، وحين رفضت، اندلعت أزمةٌ حول حرية التعبير شقت صفّ مثقفي الجنوب الأميركي، ولطخت صورة كوبا في العالم. فاقم ذلك سجن باديلا بعد ثلاثة أعوام وعدم إطلاق سراحه إلا بعدما قرأ لائحةً بـ «أفعال الخيانة» التي «اقترفها» ضد الثورة.
حينها، انضم بارغاس يوسا إلى جان بول سارتر وسوزان سونتاغ وألبرتو موافيا وغيرهم في إدانة كاسترو. سببٌ مهم دفعه لذلك هو أن باديلا كان من المؤيدين للثورة، وأن نقده كان ضد سلطةٍ أراد أن يصوبها لتنجح.
لكن كتابات ومقالات الكاتب البيروفي السياسية اللاحقة لم توضح كيف حمله سجن باديلا إلى الليبرالية التاتشرية. في ذلك الوقت، لم يكن هناك أرضية خصبة للوسطية السياسية في القارة اللاتينية. غارسيا ماركيز، مثلاً، دافع بشراسة عن سجن باديلا، لدرجة لم تمنعه من القول «لا يهم لو عُلّقت المشانق لنا جميعاً، (نحن الكتّاب)».
في العام 1990، ذهب فارغاس يوسا بعيداً في نشاطه السياسي، بترشحه لرئاسة البيرو. وبعدما فاز بالدورة الأولى بـ34 في المئة من الأصوات مترئساً تحالفاً من المحافظين والكاثوليك ورجال الأعمال، غلبه مبتدئٌ آخر في عالم السياسية، ألبرتو فوجيموري، في الدورة الثانية.

الحقد
محللاً مذكرات الروائي البيروفي حول حملته الرئاسية (سمكة في الماء ـ 1993)، تساءلت ألما غيليرمو بريوتو يوماً في «ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس» عن السبب الذي منع فارغاس يوسا «السياسي» من إدراك ما أكدت رواياته أنه يعرفه؟ برأيها، سخّر يوسا الروائي حياته لاكتشاف الفوارق والفجوات التي تولد الحقد. الحقد، تشير إليه، هو الهوس العرقي والاجتماعي الذي سمّم الحياة البيروفية، أو بكلمات الأديب نفسه، «أنت دائماً بلانكو أو كولو بالنسبة للآخر». لكنه، كمرشح سياسي، ظهر كرمزٍ لـ «البلانكوس» blancos، متحالفاً مع الطبقة العليا، مع الكنيسة الكاثوليكية المحافظة.. ومع النافذين الفاسدين، باختصار مع أعداء الضعفاء الذين روى قصصهم في كتاباته.
في مجموعة مقالات فارغاس يوسا الجديدة – ملاحظات عن موت الثقافة – تجده في الرابط ذاته، بين نقيضين، ولو ان الموضوع يغوص أكثر في بعد ثقافي. الكتاب السابع عشر له ضمن خانة الكتب غير الخيالية والذي تضمن مقالات حول مختلف الأوجه الثقافية كتبها للصحيفة الاسبانية الباييس ومقالات اخرى أطول، ناقش مسألة فقدان الثقافة لقيمتها في وجه الإعلان وإعلام الترفيه الشعبي.
أما البطل الخفي، روايته التاسعة عشرة، فترى فيه تجسيدا لبعض أفكاره التي كتبها في مقالاته. لكنه يظل إضافة بسيطة جدا لمسيرته وأعماله وكأنه هرب فيه من غموض التاريخ والسياسة لحياكة وابتداع رواية ترفيهية من نسج الخيال.
لقد أمضى فارغاس يوسا معظم حياته في أوروبا. شهرته الأدبية، وجائزة نوبل التي فاز بها، جعلته مواطن شرف في العالم المتقدم. لكن أميركا اللاتينية، وخصوصاً البيرو التي شبهها بـ «نوع من المرض العضال»، بقيت البئر التي غرف منها شخصيات رواياته الخالدة. علاقته ببلده الأم «حادة وعميقة ومليئة بعنف الشغف». هذا الشغف الذي أخرج أعماله التاريخية.. والمتناقضة في آن.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى