الرسام المصري مصطفى عيسى يعيد تركيب المنسيات

فاروق يوسف

كما لو أن الفنان المصري مصطفى عيسى قرر أن تستأنف كائناته حياتها من لحظة غياب صار يمزج طريقته المتأملة في النظر إلى السطح بما ينبعث من أعماق ذلك السطح الخشن من ذكريات، هناك حيث يمكن لكائناته النافرة أن تقيم. يبدو كل ما يصوره في معرضه «وطن لا يصدأ» المقام حالياً في قاعة الباب – متحف الفن الحديث (القاهرة) من وقائع يومية بمثابة ذريعة للرسم.
ما يهمه فعلاً أن يصل إخلاصه لتجليات المادة إلى المستوى الذي يؤهله لاقتناص فرص تصويرية ليست متاحة. لذلك نراه يستجيب طوعاً لسلوك المادة، وهنا بالضبط يكمن مبدأ حريته رساماً. إنه يتحرر من المعنى الجاهز لمفهوم الرسم ليصل إلى الينابيع التي تنبعث منها أبخرة الأشكال الحيوية، وهي الأشكال التي تشير إلى تمسكه بتشخيصية غائمة يشف عنها التجريد.
ولأن الرسم لديه يبدأ من التجربة المباشرة من غير وصفات مسبقة فإن مصطفى لا يراهن على نتيجة بعينها. فهو لا ينتظر وصفاً لحالته الشعورية وهو لا ينتظر أيضاً أن يتطابق الشكل الحيوي الذي يظهر حياً بين طبقات السطح مع شبحه التصويري الذي لم يكن إلا إلهاماً.
الصورة لدى هذا الرسام هي ما تبقى منها بعد تجربة علاجها المختبري. الصورة هي الآخرى تشقى مثلما يشقى الرسام تماماً. لا يشفى أحدهما من الآخر إلا حين يكتمل السطح بطريقة مجازية. ذلك لأن العناية بالسطح هي آخر ما يفكر به الرسام. وهي عناية يمكن أن تمارسها المواد بطريقة عفوية، كأن تسيل الصبغة أو يتجمد الصمغ أو يكف الاسمنت عن الامتصاص.
الطبيعة تملي شروطها على يد الرسام التي لا تكف عن تخيل مصائر الأشياء في ذروة تخليها عن ماضيها.
في هذه النقطة بالذات، تتاح لمصطفى أن يستذكر ماضيه رسام مشاهد طبيعية وبيئية وشخصيات، لم تكن تحرص على الشبه إلا بطريقة استفهامية. كأن يتحدى الرسام موهبته ليحول بينها وبين ما يمكن أن تنجزه تعبيرياً. كان هناك دائما شيء من الصمت يقف بين الشيء وصورته. بين الصورة وبين ما تمثله. بين الشبه الذي ترنو إليه النفس وما يقع من خياله على العين.
يمتحن مصطفى من خلال الرسم قدرته على الانحراف بإلهامه عن طريقه. هذا رسام لا يهوى المشي على الطرق المعبدة. يمد مصطفى عيسى يده في اتجاهات مختلفة ليلتقط المشاهد التي يؤلف منها لوحته. يرسم لوحته مدفوعاً برغبة البحث عن أصول إلهامه البصري في الواقع. ما من شيء من تلك الأصول يكون جاهزاً للاستعمال لحظة الحاجة إليه.
أعتقد أن الرسام يختبر الشيء قبل أن يرسمه. يعرضه لسلسلة احتمالاته البصرية لكي يستخرج منه الجزء الذي ينسجم مع قناعته الجمالية. حينها يضع ذلك الجزء في مكانه المناسب على سطح اللوحة وهو يردد «لقد وجدته».
عمليات اللصق التي يمارسها مصطفى عن طريق الرسم تقوم على أساس ما ينتج عنه سفره القلق والمضطرب بين الأشياء التي يشعر أنها حين يقترب بعضها من البعض الآخر تحقق رجاءه التعبيري.
لن يكون الشيء في اللوحة هو الشيء نفسه قبل أن تمتد له يد الرسام. انتقائية الرسام تنسف وحدة الشيء حين تعيده إلى صفاته لتعيد تركيبه، وصولاً إلى الصيغة النهاية التي يجدها مصطفى صالحة لأن تكون جزءاً من لوحته. صيغة قد لا يجد الشيء فيها نفسه. غير أنها تتماهى ما يراه الرسام من الشيء. بهذه التقنية يصنع مصطفى لوحته.
وحدة اللوحة لديه تتحقق من خلال تعدد أجزائها. ما من شيء مركزي إلا إذا بحثنا عميقاً عن السبب الذي دفع الرسام إلى اختيار تلك الأشياء ليكوّن منها لوحته. وهو سبب يقع عليه المتلقي بيسر حين يتأمل اللوحة بعمق. لا يرسم مصطفى عيسى الأشياء كما يجدها. إنه في الحقيقة يعيد اختراعها لتكون قريبة من ذائقته الجمالية وأسلوبه في النظر إلى الحياة. ولأن عالمه دائم التشكل فإن الأشياء تستعيد طابعها الحيوي من خلال ما يتخيله.

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى