ظل ..للقاصة سمر الزعبي

خاص (الجسرة)

مقاعدُ المقهى تسجِّلُ أحاديثَهم، في ذاكرة الخشبِ العتيقة تدوِّنها، تحفظ مواعيدَ محاضراتِهم، وأوقاتَ الفراغ، تخفي أسرارَ اللقاء، وتبتسم لفاتحة الجلسة، جملةٌ يلقيها أحدُهم على مسامع الأربعة:
-“دَوْغ مَن اليوم؟”
لثغةُ الرَّاءِ تروقُ للجميع، فينظرونَ في وجوه بعضهم البعض، ويُخرج صاحبَ الدَّورِ علبةَ سجائرٍ، يضعها في منتصف الطاولة، بعدما يقلب السيجارةَ التي في وسط الصفِّ الأوَّل، جميعُهم يدخِّنون منها رغمَ اختلافِ أذواقهم، ويتركون السيجارةَ المقلوبةَ حتَّى النهاية. ومن تكون من نصيبِه يطلب من صاحب العلبةِ ما يشاء.
الحصولُ عليها لا يتمُّ ببساطة؛ يتنافسون، ويتضاربون مزاحاً، ومن يفُزْبها يصرخون بوجهه: (يا محظوووظ).
تخيَّل المشهدَ؛أن يفاجِئَها بطلبه.. حتماً ستوافق.. هكذا لعبت به الظنون، فهمَسَ بابتسامةٍ لم تستقر، كأنَّ بها رعشة:
– “لـمَّا يحين دورُك، ستكونين حظِّي”.
لم تبدِ أيَّ ردِّ فعل، فيما أضمرت ضيقاً من اهتمامه، كم تمنت لو يكفَّ عن حبِّها، ولطالما حاولت أن تغلق أبواب الصحبة في وجوههم بسببه، لكن تخفقُ المناوراتُ، إن تبدَّ لها عتابُهم.
وذاتَ دورٍ أحالَها صاحبةً للعلبة، ظلَّت تلك السيجارةُ محورَ اهتمامه.. يرقُب بين الفينة والأخرى أيادي المدخِّنين، حتى ظلَّ في العلبة اثنتان، وما أن امتدَّت يدٌ إلى الأخرى التقطها بزهوٍ وسرور: “سيجارةُ الحظِّ في يدي”.
لكن سقطت عيناه على كسرٍ أصابَها، فطواها في قبضتِه مخذولاً، وتفتَّتت.
لم يخطر له أنها قد تُبطل مفعولَالسيجارة، إذ لا تنطوي عليها الشروطُ إِنْ كُسِرَت، فحينما آن موعدُ اكتشافِ الحظِّ في علبَتها، فعلت ذلك بحذرٍ، خوَّلها انجازَ ما تريد دونَ أن يلاحظها أحد.

أحسَّ بضيقِ صديقه: “ماذا كنتَ ستطلب؟”
استرخى على الكرسي، ولم يُجب.
– “سنبطلُ الشغطَ. احكِ؟”.
سكتَ برهةً، وكأنَّ لثغةَ الرَّاء جديدةٌ على مسمعه، تأمَّل فُتاتَ السيجارة، ثم نفَضَها من يده:
– “لا شيء”.
تركَ على ذكَ المقعد قطعةً منهُ، وظلاً مُنعكِفاً يحبسُ نورَه، إلاَّ أنَّه صارَ يرتادُ أيَّ مكانٍ لا يروقُ”للشلَّة” أبداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى