نبيل حنفي يؤرخ لحياة فريد الأطرش وأعماله

محمد الحمامصي

 

يؤرخ د. نبيل حنفي محمود لحياة فريد الأطرش وأفلامه الـ 31 بالسينما المصرية، وذلك في كتابه “فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائي” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة أخيرا، حيث يرصد أفلام “الأطرش” وأعماله الغنائية والموسيقية في السينما المصرية، ويحلل الكثير من عناصر أفلامه السينمائية كالموسيقى والتصوير وتوظيف بعض القوالب الغنائية في الأفلام مثل الموال والأوبريت السينمائي والمقطوعات الموسيقية. كما يرصد البيانات الكاملة لجميع الأفلام التي شارك فيها الأطرش بالبطولة المطلقة أو بالمشاركة.

يرسم د. نبيل حنفي صورة للمشهد الغنائي الذي خرج فيه الأطرش وشهدت بداياته حيث يقول “كان عام 1923 هو عام الأحداث الكبيرة في تاريخ الغناء المصري المعاصر، فقد عمل محمد عبدالوهاب في هذا العام ـ وهو في الحادية والعشرين من عمره ـ مع الشيخ سيد درويش في أوبرا “كليوباترا” التي نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وسجل محمد عبدالوهاب في هذا العام أيضًا سبع أغنيات على أسطوانات أسهمت في دعم انتشاره وتأكيد مكانه على قمة الغناء،

وقد شهد عام 1923 أيضًا نزوح أم كلثوم من مسقط رأسها ـ قرية طماى الزهايرة ـ إلى القاهرة. حيث التقت لأول مرة بأستاذها الشيخ أبوالعلا محمد الذي لحن لها العديد من القصائد الرائعة مثل “الصبّ تفضحه عيونه” من شعر أحمد رامي والتي وضعتها على قمة الغناء المصري بجوار محمد عبدالوهاب.

وحين بدأ عام 1923 يلملم شهوره الباقية ليدلف إلى غيابات التاريخ.. رحل عن عالمنا الشيخ سيد درويش في يوم 15 سبتمبر/أيلول قبل أن يقطف ثمار ما بذره من أفكار متطورة في تربة الغناء المصري التي لم تنتج قبله إلا التكرار والرتابة.

وقبل أن ينصرم عام 1923 بأيام قليلة. وصلت إلى القاهرة سيدة شامية تسحب في يديها صبيين وفتاة صغيرة وقليلا من المتاع، كانت تلك السيدة هي علياء حسين المنذر، درزية لبنانية تحمل الجنسية السورية، وكان الأطفال هم فؤاد وفريد وآمال أبناء فهد بن فرحان إسماعيل الأطرش، شقيق سلطان الأطرش قائد ثورة جبل العرب (1922 ـ 1925) التي اندلعت لتعم سوريا قبل ذلك بعام واحد.

جاءت السيدة علياء بأبنائها إلى القاهرة هربًا من ملاحقة قوات الاحتلال الفرنسي التي استهدفت اعتقالهم لكسر شوكة آل الأطرش الذين كانوا يقودون حربًا شرسة ضد الاحتلال الفرنسي من الشام.

كان هرب السيدة علياء بأبنائها من بيروت إلى القاهرة وعبر فلسطين سريعًا حتى أنها لم تحمل معها أية وثائق لتحقيق الشخصية. مما تطلب اتصال ضابط الجوازات المصري من منفذ القنطرة تليفونيا بالزعيم سعد زغلول في القاهرة للحصول على موافقته على دخول السيدة علياء وأبنائها إلى مصر، وحين عبرت السيدة علياء وأبناؤها ميدان باب الحديد (رمسيس حاليا) في أحد أيام شتاء عام 1923 في طريقهم إلى حي باب البحر حيث أقاموا في أول مسكن لهم بالقاهرة. لم تكن تعلم أن وصول صغيرها فريد إلى القاهرة في هذا العام سيكون واحدًا من الأحداث المهمة في تاريخ الغناء المصري بعد ذلك، ولم لا وقد صنع هذا الفتى ـ القادم إلى مصر من قلب الثورة في جبل العرب ـ للغناء المصري والعربي الكثير.

وعن بدء الأطرش حياته في القاهرة يضيف “عمل فريد موزعًا للإعلانات والمشتريات في محلات بلاتشي بالموسكي بعد انتهاء الدراسة، وذلك إضافة إلى تلقيه دروسًا في عزف العود والغناء على يد والدته وبعض كبار الملحنين مثل داود حسني وفريد غصن، فقد كانت موهبة الفتى الصغير في عزف العود والغناء قد ظهرت في سهرات الأسرة ودروس التراتيل الكنسية بمدارس الفرير والبطريركية، وبين حين وآخر كان فريد يقدم وصلات غنائية في محطات الإذاعة الأهلية التي كانت تملأ القاهرة آنذاك مثل محطة إلياس شقّال التي تغنى فيها بالعديد من أغنياته الأولى التي جلبت له الشهرة بعد ذلك في عقد الثلاثينيات، وهكذا ذهبت أيام العز في ديمرجي وبيروت والسويداء، لتجيء أيام الكفاح والشقاء والعمل المتواصل في القاهرة، وبمبادرة من أبناء الجالية السورية بالقاهرة لمساعدة أسرة فريد.

أحيا الفتى حفله الأول في تياترو برنتانيا بشارع عماد الدين في مساء السبت 19 يوليو/تموز 1930، هذا الحفل الذي نشرت إدارة التياترو إعلاناً عنه لجذب الجمهور في الصفحة السادسة من عدد الخميس 17 يوليو/تموز 1930 من صحيفة الأهرام يقول نصه: “حفلة طرب كبرى في تياترو برنتانيا: يحيى بلبل العصر فريد بك الأطرش مطرب الراديو بالقاهرة في التاسعة والنصف من مساء السبت 19 يوليو الجاري حفلة طرب كبرى بتياترو برنتانيا على تخت مؤلف من كبار رجال الفن”، وهكذا.. بدأ الفتى الصغير القادم من جبل العرب أولى خطواته على طريق الشهرة والمجد”.

ويشير د. نبيل حنفي إلى أن النصف الأول من عقد الثلاثينيات كان زمن الكفاح الصعب في مشوار فريد الأطرش. ويوضح “الكفاح الذي فتح له الطريق بعد ذلك ليتبوأ مكانه عند قمة الغناء، فبالإضافة إلى دراسته المنتظمة في المدرسة البطريركية وغنائه في المحطات الأهلية، فإنه تقدم في صيف عام 1933 ليدرس في المعهد الملكي الموسيقي، هذا مع كونه يعمل بالعزف على العود والغناء مع المنشدين (الكورس) في صالتي بديعة مصابني وماري منصور.

وحينما رسب فريد في امتحان معهد الموسيقى لمادة الغناء بالعام الدراسي الأول لمرضه، فإنه ترك الدراسة في معهد الموسيقى وفي المدرسة الثانوية التي قضى بها عامين ليتفرغ كلية للغناء منذ عام 1934، ولكن عام دراسته الوحيد في معهد الموسيقى (33 ـ 1934) حمل في واحد من أيامه مصادفة شكلت نقطة التحول الرئيسية في حياته، تمثلت تلك المصادفة في لقائه بالموسيقار مدحت عاصم الذي كان يشغل آنذاك منصب المدير الفني لمحطة الإذاعة الحكومية التي بدأت إرسالها في 31/5/1934.

استمع مدحت عاصم في لقاء المصادفة هذا بإعجاب وحب إلى عزف فريد على العود، ولقد ترجم مدحت عاصم إعجابه في هذه الأيام الأخيرة من عام 1935 في صورة عقد من الإذاعة لفريد ينص على تقديمه وصلة أسبوعية من العزف المنفرد على العود، فجاءت إذاعة الوصلة الأولى لفريد في مساء الإثنين 13 يناير/كانون الثاني 1936، وعندما استمع مدحت عاصم بعد ذلك إلى غناء فريد.. فإن التعاقد الأول أضيف إليه بند ينص على أن يقدم فريد وصلتين من الغناء أسبوعيا لقاء أجر قدره جنيهان للوصلة الواحدة. وفي مساء السبت 21 مارس/آذار 1936 استمع جمهور إذاعة القاهرة في كل مصر إلى عزف منفرد على العود من فريد أتبعه بأغنيته الأولى “بحب من غير أمل”.

ثم قدم فريد بعد ذلك خلال شهور أبريل ومايو ويونيو من عام 1936 مجموعة من الأغنيات مثل: “يا ريت تدوقي اللي في قلبي”، “الشريد”، “يا نسمة تسري” وغيرها حفظت له مكانًا بين مطربي الإذاعة وقتها، لكن الشهرة جاءت إليه بعد أن غنَّى في مساء الأربعاء 29 يوليو/تموز 1936 أغنيته الخالدة “يا ريتني طير لا طير حواليك” التي نظمها ولحنها الفنان الفلسطيني يحيى اللبابيدي الذي كان يعمل آنذاك مديرًا لقسم الموسيقى العربية بالإذاعة الفلسطينية”.

ويرى أنه منذ عرف الناس صوت فريد ورصيده من حب الجمهور في نمو وازدياد، حتى لقد عدّه الكثير من النقاد مثل د. رتيبة الحفني وكمال النجمي المنافس الوحيد والحقيقي لمحمد عبدالوهاب، إذ قدم فريد في سنوات بداياته الأولى في عقد الثلاثينيات الكثير الذي جذب إليه جماهير الطبقة الراقية من المجتمع، فبالإضافة إلى تميز صوته وسحر عزفه على العود، فإن استعانته بالكثير من قوالب الموسيقى الغربية كالتانجو والرومبا والفالس في صياغة ألحانه الأولى ذات النكهة والأصل الشرقي جذب إليه أسماع المثقفين من أبناء الطبقة الراقية.

ويؤكد د. نبيل حنفي أن مفهوم الأغنية السينمائية ترسَّخ وأصبح واضحًا عندما قدم فريد الأطرش وشقيقته أسمهان فيلمهما الأول “انتصار الشباب” الذي عرض بدار سينما ستوديو مصر في 24 مارس/آذار 1941، جاء نجاح “انتصار الشباب” كاسحًا وناسخًا لكل ما تقدمه من نجاح لقيه أي فيلم غنائي قبله، فقد استمر عرضه الأول سبعة أسابيع كاملة العدد في حفلات اليوم الأربعة، آنذاك. كان الفيلم الناجح يستمر عرضه لثلاثة أو أربعة أسابيع”.

ويلفت إلى أن الغناء جاء ركنًا أساسيا في الفيلم الذي ضم أحد عشر عملاً غنائيا تنوعت بين الطقطوقة والقصيدة والديالوج والمونولوج الفكاهي والأوبريت، مما جعل الفيلم جديرًا باسم “الفيلم الغنائي”، وقد نجح أحمد بدرخان في توظيف أحداث القصة لإضفاء الواقعية على ما تضمنه بعضها من غناء، فجاءت أغنيات الفيلم لتعبِّر عن تطور أحداث قصته ونمو شخصيات أبطاله، ولتلعب دورًا أساسيا في التعبير عن مشاعر وأحلام أبطاله، وكان نجاح فريد في تلحين أوبريت “الشروق والغروب” وأوبريت “ليالي الأندلس” في هذا الفيلم شهادة انضمامه إلى نادي رواد الموسيقى العربية الذي ضم قبله سيد درويش ـ محمد عبدالوهاب ـ رياض السنباطي ـ محمد القصبجي.

ويقول “توالت أفلام فريد الاستعراضية والغنائية في عقد الأربعينيات والسنوات الأولى من خمسينيات القرن الماضي، وجاءت بالتسلسل التالي: (أحلام الشباب: 1942)، (شهر العسل: 1945)، (جمال ودلال: 1945)، (ما أقدرشي: 1946)، (حبيب العمر: 1947)، (بلبل أفندي: 1948)، (أحبك أنت: 1949)، (عفريتة هانم: 1949)، (آخر كدبة: 1950)، (تعالى سلم: 1951)، (ماتقولش لحد: 1952)، (عايزة أتجوز: 1952) و(لحن الخلود: 1952).

كان فيلم “حبيب العمر” هو باكورة إنتاج فريد من الأفلام الغنائية، وقد حقق نجاحًا يعز على الوصف وعَدَّه فريد خميرة ما جناه من ثروة بعد ذلك.

وعن نجاح “حبيب العمر” يقول الموسيقار بليغ حمدي: “إن أي نجم سينمائي عندما كان يقول عن فيلمه إنه نجح.. فإن السؤال التالي الذي كان يسمعه فورًا من الوسط السينمائي في مصر هو إلى أي حد كان فيلمك ناجحًا؟ هل اقتربت مثلاً من نجاح “حبيب العمر”؟ وبتعدد الخبرات التي اكتسبها فريد من تمثيل هذه السلسلة من الأفلام ذات الطابع الكوميدي، ومن خلال تعامله مع مجموعة من ألمع مخرجي السينما المصرية في تاريخها مثل: أحمد بدرخان، كمال سليم، هنري بركات، حسين فوزي وحلمي رفلة، فإن ذلك أسهم في نضجه كممثل، وبرسوخ قدمه كممثل اكتملت له رباعية الخلود التي ضمت قبل ذلك إبداعاته كمطرب وملحن وعازف على العود لا يتكرر.

ويشير د. نبيل حنفي إلى أن فريد الأطرش اعتمد على الأفلام الغنائية والاستعراضية كوسيلة اتصال مباشر بجمهوره المتنامي وكأداة للتجديد والتجريب في الموسيقى والغناء، فبالإضافة إلى الاستعراضات والأوبريتات التي ازدانت بها هذه الأفلام، فإن محاولاته لتحديث الأغنية العربية ـ بإدخال الإيقاعات الغربية والتي بدأها في الثلاثينيات من خلال بعض أغنياته الإذاعية ـ توّجت بكثير من النجاحات في أفلامه الغنائية، فجاءت أغنيات مثل: “ليالي الأنس: 1944″، “حالي صعب ع الغمام: 1945″، “يا زهرة في خيالي: 1947″، “حبيب العمر: 1947″، “وياك: 1952″، “لحن الخلود: 1952″ و”مخاصمك يا قلبي: 1956″ لتكسر مونوتونات الأغنية العربية، ولتقدم غناءً عربيا مؤسسًا على أصول مغرقة في المحلية لكنه في نفس الوقت عالمي الشكل والمضمون”.

ويقول “كانت الدنيا قد أقبلت على فريد منذ منتصف الخمسينيات.. فشرع في بناء عمارة تطل على النيل من ضفته الغربية في مدينة الجيزة، وبالرغم من ذلك.. فإن إنتاجه الغنائي تضاعف في هذه الفترة ـ رغم مرضه ـ بما يقدمه من أغنيات في أفلامه الجديدة الدرامية بعد أن حَدَّ المرض من قدرته على تمثيل الأفلام الاستعراضية، وبما يقدمه للإذاعة من أغنيات بصوته وأصوات غيره من المطربين والمطربات مثل: كمال حسني ـ محرم فؤاد ـ صباح ـ فايزة أحمد ـ ليلى مراد ونجاح سلام، وكان فريد مازال ماضيا في محاولاته التجديدية، ليفاجئ الجميع بعد فترة من الزمن بلحن يحمل إرهاصات غنائية وموسيقية تتجاوز المكان (مستشرفة العالم كله) وتصارع الزمن (لبقائها حتى الآن تحمل لمعة التجديد ورونق المعاصرة)، حتى جاءت إلى فريد في نهاية الخمسينيات أول شهادة تقدير أجنبية لِفنِّه متمثلة في أسطوانة حملها إليه أحد الدارسين المصريين في الاتحاد السوفيتي (آنذاك) لأغنيته “يا زهرة في خيالي” بصوت مطرب روسي.

كانت قصيدة “يا زهرة في خيالي” هي اللحن العربي الأول الذي عبر حدود المنطقة العربية في القرن العشرين ليتغنى به الناس في الاتحاد السوفيتي ويطبع على أسطوانة تجارية سعد العديد من الدارسين العرب بمشاهدتها في متاجر جوم الشهيرة بمدينة موسكو.

واستمر انتقال ألحان فريد إلى الغرب في عقد الستينيات وما تلاه من عقود، ففي الستينيات قدم الموزع الموسيقى الفرنسي فرانك بورسيل في صيف عام 1964 ومن خلال إصدارات شركة عالمية أسطوانة ضمت أربع مقطوعات موسيقية لفريد بعد إعادة توزيعها وعزفها على أوركسترا يعد هو الأكبر عالميا آنذاك، كانت المقطوعات الأربعة هي: حبيب العمر ـ نجوم الليل ـ ليلى وزُمرده.

وفي مطلع عام 1965، تغنت المطربة الفرنسية مايا كازابيانكا بأغنية “يا جميل يا جميل” ـ والتي تغنى بها فريد قبل عشر سنوات في فيلم “قصة حبي 1955” ـ بعد ترجمتها إلى اللغة الفرنسية مع الإبقاء على كلمة “يا جميل” فقط باللغة العربية، قبل ذلك.

وفي عام 1962 عقدت مسابقة عالمية بتركيا لاختيار أحسن العازفين في العالم على الآلات الشرقية، وجرت منافسات المسابقة على جميع الآلات الشرقية، عدا آلة العود التي حجبت اللجنة المنظمة جائزتها لتهدى إلى فريد الأطرش الذي لم يحضر المسابقة، لأنه ـ وطبقًا لرأي اللجنة ـ هو الجدير بهذه المسابقة ولا أحد سواه، لقد ترجمت بعض أغنيات فريد إلى سبع من اللغات الحية هي الفرنسية والإنجليزية والألمانية والتركية والفارسية واليابانية وأخيرًا العبرية، ولم يكن هذا هو كل ما أخذه العالم من ألحان فريد الأطرش، إنما أخذ بعض كبار المطربين العالميين في القرن الماضي مثل داليدا وأنريكو ماسياس وفادي إسكندر مقاطع من العديد من الأغنيات المعروفة لفريد مثل “وياك” و”مش كفاية” ليجملوا بها غناءهم الشجي الذي يحمل عبق الشرق وسحره”.

ويلفت د. نبيل حنفي إلى أن البعض يعتقد أن أول دعوة للوحدة العربية في غنائيات فريد الأطرش ـ بل وفي غنائيات القرن العشرين العربية ـ جاءت في أوبريت “بساط الريح” الذي قدمه فريد في فيلم “آخر كدبة ـ 1950″، ولكن الحقيقة هي أن الدعوة الأولى للوحدة العربية سبقت أوبريت “بساط الريح” بعامين، وأطلقها فريد في أوبريت “غناء العرب” الذي شدا به بمشاركة المطربة صباح في فيلم “بلبل أفندي ـ 1948″، وفي كل من العملين ـ “غناء العرب” و”بساط الريح” ـ قدم فريد باقة من فنون الغناء العربي في عدة أقطار عربية، وحلق عبر شريط السينما في أجواء العراق وسوريا ولبنان وتونس والمغرب وقبل ذلك وبعده مصر، ليجمع العرب ـ ولو في عالم السينما والغناء ـ بعد قرون من الفُرّْقة، وقد عبّر عن حلمه بالوحدة العربية بشكل آخر عندما جمع أعلام الدول العربية في ديالوج “إحنا لها” الذي قدمه مع المطربة شادية في فيلم “ودعت حبك ـ 1956″، حيث شكلت لوحات ملونة يرفعها أربعمائة جندي من الجـيش المصري في خلفية المسرح الذي يغني عليه فـريد وشادية أعلام الدول العربية، ولكنه عبر عن حلمه بالوحدة بشكل أكثر تحديدًا، عندما تغنى بكلمات بيرم التونسي في أغنية “مرحب مرحب” التي قدمها من إذاعة القاهرة في 24 يوليو/تموز 1955 قائلاً:

أسأل الله يبلّغني كل المقصود

وأشوف الأمة العربية من غير حدود

يمشي العربي في أملاكه ببساط ممدود

لا تقول وين أوراقك ولا رايح فين

وحينما تحقق حلم الوحدة العربية بقيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا في أول فبراير/شباط 1958، قدم فريد الأطرش أجمل أغاني الوحدة وأخلدها على الإطلاق: “م الموسكي لسوق الحميدية ـ 1958” و”حموي يا مشمش ـ 1959″، لتغنيهما المطربة صباح وينطلقا على لسان كل الجماهير العربية.

لم يكتف فريد بما تضمنته بعض أغنياته وأعماله من دعوة للوحدة العربية، وإنما طاف بكل الدول العربية تقريبًا يقدم غناءه للشعب العربي في كل مكان وليؤكد من خلال التفاف الجماهير حوله على وحدة الأمة، لقد غنى فريد في أقطار عربية تتمتع بالاستقلال وفي أقطار أخرى كانت ترزح تحت الاحتلال الأجنبي، وغنى في دول عربية تحكمها قصور ملكية وفي دول أخرى تحكمها نظم ثورية، ومن الطرائف التي تذكر في هذا المقام، أنه نجا من الموت بأعجوبة ليلة التاسع من يوليو/تموز 1971 في قصر الصخيرات بمدينة الرباط المغربية أثناء انقلاب الجنرال محمد أو فقير الذي استهدف نظام الملك الحسن الثاني أثناء الاحتفال بعيد ميلاد الملك الثاني والأربعين، وبعد ذلك، فإنه أحيا في 22 مايو/آيار 1974 احتفالات ثورة مايو في مدينة الخرطوم، وغنى من أشعار الشاعر السوداني عبدالله قلندر أنشودة بعنوان “يا ثورة مايو”.

وقبل ذلك بثمانية عشر عامًا، اخترق فريد حصار الاحتلال البريطاني حول الجنوب اليمني المحتل ليصل يوم 9 فبراير/شباط 1956 إلى مدينة عدن حيث أحيا هناك خمس حفلات، وبالرغم من أنه غنى للزعيم جمال عبدالناصر: “حبيب حياتنا كلنا” و”يا حبيب الشعب العربي”، فإنه غنى للملك فيصل: “بسم الله فيصل آل سعود” وغنى للملك حسين بن طلال: “ياما أحلى التاج على جبينك” وغنى للشيخ زايد بن سلطان: “زايد سلطان يا غالي” وغنى للملك الحسن الثاني: “يا مرحبا يا ميت هلا”، وكما غنى لمصر “سنة وسنتين، يا مصر يا عمرى يا نور العين”، فإنه غنى للكويت: “يا مرحبا يا كويتنا” وغنى للبحرين: “ع البحرين” وغنى لفلسطين: وردة من دمنا”، لذا.. كانت جميع المطارات العربية مفتوحة لفريد الأطرش يعبر بواباتها بغير جواز سفر.. فقد كان وجهه واسمه هما هويته!

ويؤكد د. نبيل حنفي أن جوهر العروبة الحقيقي في أعمال فريد الأطرش، تمثل في تمسكه بالنطق الصحيح للغة العربية، وفي تحريه صحة الأوزان الشعرية في كل غنائياته، وفي كونه أكثر ملحن عربي معاصر استخدامًا للمقامات العربية كالبياتي والحجاز والكُرد والنهاوند والآلات الموسيقية العربية كالعود والناى والقانون في بناء أعماله وتنفيذها، وذلك فيما رصده قائد الأوركسترا سليم سحاب وآخرون.

كان فريد الأطرش إنسانًا له نُبْل الفارس ورقة الفنان، إذ قدم للغناء المصري المعاصر الكثير الذي يتجاوز إنتاجه الغنائي والموسيقي، ليشمل ما هو إنساني وخالد، فبالإضافة إلى أغنياته التى شدا فيها بالحب والجمال والوطن والقومية وكل القيم الرفيعة، فإنه قدم خلال مسيرته الفنية نموذجًا إنسانيا يندر تكراره، فمن خلال رئاسته لجمعية المؤلفين والملحنين المصرية منذ عام 1963 وحتى وفاته، قدم الكثير للدفاع عن حقوق إخوانه من المؤلفين والملحنين وكان ماله الخاص حلاً سحريا لكل مشاكل الروتين واللوائح.

لقد كان كرمه الحاتمي وبيته المفتوح للجميع حديث الكل ومثار حكاياتهم في حياته وبعد مماته، وها هو فوميل لبيب يصف ذلك بعد رحيله فيقول: “وكان كريمًا.. مائدته العامرة مضرب الأمثال.. وهو يحب العطاء ولا يقبض يده عن عون أو غوث، لهذا كان الموسيقيون يختارونه نقيبًا لهم لأنه يعطي من جيبه فوق ما تعطي الخزانة من حصيلتها، وله آيات كرم لا يعرفها أحد من مرتبات مرصودة أو رعاية لطلبة غير قادرين أو شيوخ قد أقعدهم المرض”.

لذلك ولكل ما قدم فريد في مشواره مع الفن رشحته اللجنة الموسيقية العليا المصرية لنيل جائزة الدولة التقديرية في الفنون عن عام 1974 وقبل شهور قليلة من وفاته، وكان من حيثيات ترشيح اللجنة له: “أنه أول من أدخل فن الأوبريت إلى السينما المصرية، ولأنه حافظ على الطابع العربي ولم يحد قيد شعرة عن المشاعر العربية الأصيلة. ولم يغن لمصر فقط أو للبنان أو لسوريا، لكنه غنى للعرب حيثما كانوا وغنى للإنسان الذي استمع وفهم وتذوق نتاج عاطفته الصادقة وروحه المتدفقة وإحساسه المرهف وإنسانيته الفياضة، إن اللجنة الموسيقية العليا رشحت فريد الأطرش لنيل الجائرة لإدراكها الكامل لمكانته الفنية العليا”.

لكن هيئة الجائزة ـ التي تعبر اختياراتها بالطبع عن حيثيات أخرى ـ لم تأخذ بترشيح اللجنة الموسيقية العليا وجموع أهل الفن، فذهبت الجائزة في عام 1974 إلى فنان تشكيلي شاب، ولكن بعد أن رحل فريد الأطرش بشهور قليلة، فإن جائزة أكبر بكثير من جائزة الدولة التقديرية المصرية منحت إلى اسمه، كانت تلك الجائزة هي “ميدالية الخلود” التي أهدتها الحكومة الفرنسية لأول مرة إلى موسيقي عربي هو فريد الأطرش، والتي نشرت بموجبها أعمال فريد الأطرش وسيرة حياته في الموسوعات الفرنسية، وقبل هذه الجائزة وبعدها.

يذكر أن الكتاب يتكون من أربعة أبواب، الأول بعنوان سيرة مختصرة، والثاني بعنوان “سينما فريد الأطرش، ويتكون من خمسة فصول، والباب الثالث “مرحلة البحث عن الهوية، والباب الرابع مرحلة الاحلام الاستعراضية، والباب الخامس مرحلة اللبنانية ومرحلة التجديد والتنقل بين الأفلام، وقضايا فنية، ويقع الكتاب في 400 صفحة من القطع الكبير مزودة بصور خاصة.

يذكر أن الدكتور نبيل حنفي محمود أستاذ بكلية الهندسة في شبين الكوم، وله عدد من المؤلفات منها: معارك فنية ونجوم العصر الذهبي، الغناء المصري، حكايات أسرة أرمينية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى