فسيفساء في معهد الفنون.. ليل فان غوغ

محمد شرف

لن نجانب الحقيقة إن قلنا إنّ لكل عمل فني حكاية. هذا، بالرغم من معرفتنا بأن القصة المرتبطة بالعمل الفني لا تكون دائماً على المستوى نفسه من حيث محتواها وثقلها، وما تحمله من أمور غير متوقعة، كما من حيث طولها أو صغرها. ثمة أعمال فنية تُنجز بسرعة ومن دون جهد ملحوظ، في حين أن أعمالاً أخرى تتطلب وقتاً وجهوداً كي تنتقل من حيز الفكرة إلى الفعل، مع ما يمكن أن يتضمنه هذا الانتقال من مراوحة قد تُعتبر طبيعية، وعوائق لا مفر منها، كي تصل المهمة إلى مبتغاها النهائي.
إلى هذا النوع الثاني ينتسب العمل الذي قام به طلاب السنة الثانية في قسم الفنون التشكيلية بمعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، وذلك تحت إشراف أستاذة المقرر الفنانة التشكيلية سوزان شكرون، وبرعاية رئيس القسم الدكتور يوسف غزاوي ومدير المعهد المهندس علي الحسيني. العمل هو عبارة لوحة فسيفسائية كبيرة الحجم شكّلت مشروعاً يدخل في توصيف مقرر مادة الفسيفساء، بعدما كانت فكرة تنفيذ أعمال من هذا القبيل على جدران معهد الفنون قائمة منذ سنتين، لكن الانتقال إلى الفعل كان يصطدم دائماً ببعض المعوقات، إلى ان اتُخذ القرار بالمباشرة بالعمل بعد الأخذ والرد.
لكن هذا القرار لم يكن سوى البداية الذي ستتبعها عثرات أخرى، كما حدثتنا سوزان شكرون. إذ هناك أيام العطل التي تفرضها الأعياد الرسمية من جهة، وقلة الحصص المقررة للمادة من جهة أخرى، ما يضع القائمين بالعمل تحت ضغوط المدى الزمني، علماً أن اختيار موضوع الجدارية شكّل في حد ذاته المسألة الأكثر تعقيداً، لكون الفسيفساء تختلف عن الأعمال الفنية الأخرى، لما لها من حيثيات وخصوصيات تتفرّد بها عن سواها. بعد مراوحة تتعلّق بمسألة الموضوع، وقع الخيار على عمل الفنان الهولندي الشهير فانسان فان غوغ المسمّى «ليلة النجوم»، وقد توافق هذا القرار مع العمل التجهيزي الذي كان نفذه الطلاب أثناء الاحتفال باليوبيل الذهبي للمعهد، والذي ذاعت شهرته في العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتبنته بعض المتاحف العالمية. الانتقال إلى الناحية التطبيقية لم يخل بدوره من صعوبات، فمادة السيراميك التي من المفترض استعمالها غالية الثمن، وخصوصاً لدى الحاجة إلى ألوان معينة تختلف أثمانها عن الألوان الترابية. تم حل هذه المسألة بعد موافقة إدارة المعهد على تمويل المشروع بالرغم من شح الميزانية وقلّة الموارد، وذكّرتنا الموقعة بعبارة أثيرة كنا نرددها أثناء دراستنا، لسنوات كثيرة خلت، ومفادها «إن الفن يتطلب تضحيات»…
وإذا كان من الصعب تنفيذ العمل بحسب الطريقة الكلاسيكية التي تقتضي تقسيمه إلى أجزاء، تتم صناعتها في مكان مستقل عن الجدار، ومن ثم تُجمع وتُلصق على المساحة المحددة، فقد عمد الطلاب إلى طريقة أخرى يجري بمقتضاها إلصاق السيراميك، المقسّم قطعاً صغيرة تتناسب أحجامها مع المهمة المطروحة، على الجدار مباشرة، مع ما يتطلّبه ذلك من تطويع صفحة هذا الجدار كي تتلقّى قطع السيراميك في شكل متين. كان العمل شاقاً وتطلّب جهوداً من طلاب يتكوّن معظمهم من الإناث، ممن تخلّين عن نعومة أيديهن ضمن مهمة تُستعمل فيها مواد لاصقة تؤذي البشرة الجلدية. وإذا كانت البدايات حذرة وبطيئة، كما هي العادة، فقد اشتعلت الحماسة مع ظهور الملامح الأولى للعمل، وازداد مع التشجيع والإعجاب الذي أبداه طلاب المعهد الآخرون، مع ما يمكن أن يرد في ظروف مماثلة من ملاحظات يطلقها بعض المتطفلين. لكن العملية برمّتها تحوّلت إلى ما يشبه مسرحية يتم خلالها عرض فني من نوع خاص، لكون الموقع مفتوحا وظاهرا أمام الجميع.
هكذا، تحوّل الطلاب «نجوماً» امتزجت هالاتهم بنجوم ليل فان غوغ في العمل الذي يحمل، كما معظم أعمال الفنان الشهير، مزاجية طاغية استطاع الطلاب عكسها من خلال تقنية الفسيفساء. وتقتضي الأمانة ذكر أسماء هؤلاء «النجوم» وهم: رقية طالب، ملاك غصن، عباس منصور، نور قوّاص، نور فوعاني، مريم قاضي، زينب فرحات، حلا بردى، فاطمة فوعاني، علي عبود، نور برو، أميرة دعبول، حسين قهوجي وغدير شمص. وما من شك لدينا أن بعض من ورد ذكرهم سيتركون بصماتهم، ذات يوم، على مسيرة الفن التشكيلي اللبناني، إذا لم تفارقهم الجدّية والحماسة التي شهــدناها في العمل الفسيفسائي الذي نال تقديرنا وإعجابنا.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى