فرانسوا بون يجمع قصص أهل البحر المتوسط… بشغف

كاتيا الطويل

«ألف هذا الكتاب أناس من مختلف الأعمار والأوساط. فالكتاب هم من النساء ومن الرجال، يقيمون في المدن، في الضواحي، في الأرياف… وقع اختياري عليهم وعلى قصصهم من دون أن أحدد مقياسًا أو ميزانًا أو معيارًا سكانيًا. لقد اخترت القصص وفق: قيمتها الإنسانية والتاريخية والتشويقية. هكذا حددت القصص، ووحده القدر كان الحاكم الآمر وسيد القرار». هذه هي كلمات الكاتب والروائي الأميركي بول أوستر، كتبها أواخر القرن العشرين عقب بث برنامجه على الإذاعة والذي يخبر فيه قصص الناس، قصص أرسلها له مواطنون من مختلف أنحاء الولايات المتحدة، قصص الحب والحزن والألم والموت، قصص شعب وحقبة وزمن وإنسانية بأكملها. فجمع أوستر قصص الناس التي أرسلوها إليه ووضعها ضمن كتاب هو من أبرز كتبه وعنوانه: «قصص حقيقية من الحياة الأميركية» (True tails of American life).
وها هو اليوم الكاتب والروائي الفرنسي فرنسوا بون (Francois Beaune) يعيد الكرة إنما على نطاق أوسع. فقد نشر بون بالفرنسية، من بعد روايتيه الإثنتين (Un homme louche، 2009; Un ange noir، 2011)، كتابًا هو بمثابة مجموعة قصص رصدها من المدن المتوسطية، استقاها من الوجوه والشفاه والعيون، قصص حقيقية صنفها وفق حقبتها الزمنية (طفولة، مراهقة، عمر العشرين، الثلاثين، الأربعين، الخمسين، الستين، الشيخوخة، الموت) وقدمها إلى القارئ كما هي، فكانت هي المادة الأولى والمادة الأساسية المكتوبة على ما هي عليه من صدق وواقعية. وقصص بون هي 1300 قصة مجموعة ضمن كتاب واحد وهي حصيلة تنقله بين مدن المتوسط مثل: برشلونة، مارسيليا، الدار البيضاء، الجزائر، تونس، الإسكندرية، القاهرة، بيروت، حمانا، إسطنبول، أثينا، باليرمو، القدس، وسواها. قصص كثيرة تتأرجح موضوعاتها بين الحب والحرب والحزن والفرح والزواج والموت والهجرة والهرب والبقاء والمقاومة وغيرها، فيختلف الراوي فيها وتختلف وجهة نظره ورؤياه للواقع وللحقيقة.
بحر أبيض متوسط حافل بالقصص والأخبار والذكريات «نادى» فرانسوا بون كما يقول هو بنفسه، «ناداه» ليجمع قصص أرضٍ عاشت وعانت وعاندت. وفي كتابه «la lune dans le puits» (القمر في البئر، 2013) يسلط بون الضوء على الحقيقة، على التاريخ، على الإنسان الذي عاش، على التجارب الكثيرة التي يهملها التاريخ ويغض المجتمع الدولي الطرف عنها. قصص كثيرة تراكمت وتزاحمت لتحاول تشكيل مشهد الواقع. وكما لا يمكننا النظر إلى الشمس الساطعة مباشرةً إلا عبر وسيط كالمرآة أو سطح المياه، كما لا يمكننا النظر إلا إلى انعكاس الضوء الباهر فكذلك هي الحقيقة: لا يمكننا النظر إلا إلى انعكاسها، لا يمكننا رؤية صورة القمر إلا في البئر، على وجه صفحة الماء. فكانت هذه القصص البئر التي تعكس وجهًا من وجوه القمر الذي يرمز إلى الحقيقة والواقع.
وكان لنا لقاء مع الكاتب الفرنسي بون الذي أمضى ستة أسابيع في لبنان يجمع في أثنائها قصص اللبنانيين، متنقلاً ما بين البقاع وطرابلس وصيدا وصور وبيروت، جمع القصص وتعرف إلى اللبنانيين وقال واصفًا لبنان بضحكة كبيرة:» لبنان بلد رائع، فهو كالغرفة الزجاجية، واحد من تلك الأماكن التي تتيح لك مراقبة جنون محيطك. أمور كثيرة تحدث حولك، تخبطات ونزاعات، وأنت جالس في الوسط، ترى كل شيء وتراقب وتحلل. ولبنان بلد حاد الخليط وصعب، فيه من المشاكل ما لا يقوى عليه، كل الصعوبات واضحة وظاهرة، نتأملها ونكمل عملنا. وحده المجتمع المدني هو الذي ينقذ الوضع بحماسه ونشاطه ومؤهلاته الكبيرة».
وأسأله عن الدافع الذي حضّه على الشروع في مشروع من هذا النوع فيقول: «عندما قرأت كتاب أوستر تشجعت كثيرًا وقررت أن أقوم بالعمل نفسه إنما في فرنسا. فطلبت من القراء الفرنسيين أن يرسلوا إلي نصوصهم وقصصهم الحقيقية، لكن اللبس وقع عندما وجدت أن القصص بعيدة عن الواقع، فيها إبداع وخيال ومبالغة. عندها أدركت أن العمل لن ينجز بهذه الطريقة، أدركت أنه يجب أن أذهب بنفسي إلى الواقع لأستنبطه. فاشتريت مسجلة وبدأت رحلة البحث عن القصص المختبئة خلف الوجوه والعيون، تنقلت بين المدن الفرنسية واكتشفت أن الأمر يعجبني ويجذبني وفيه الكثير من الإثارة والتشويق. ومع بداية الربيع العربي والحركات الاجتماعية على طول البحر الأبيض المتوسط فكرت في توسيع بقعة القصص، فبدأت الرحلة الطويلة. رحلتي مع قصص البحر الأبيض المتوسط المتخبط بالتغييرات السياسية والاجتماعية».
تنقل بون بين البلدان انطلاقًا من فرنسا نحو إسبانيا فالبرتغال نحو شمال أفريقيا ليصل إلى مصر ففلسطين فلبنان وسورية وإسطنبول. ولم يحرم بون أي مدينة الحق في المساهمة في إخبار قصصها.
ووحدهم أهل المتوسط هم الذين يتحكمون بزمام السرد، فبون موجود فقط لينقل القصص ويعتبر نفسه يقوم بوثائقي عن الحياة هو الذي درس التاريخ واهتم بالحقائق وماجريات التاريخ. فيقول واصفًا نفسه: «وضعت نفسي موضع الذي لا يعرف شيئًا ولا يتوقع شيئًا وهو خارج ليكتشف ويجمع ويتعلم. وقد لاحظت أننا كبشر لا نختلف بالقدر الذي نظنه، فعلاً، وأنا لست أفهم هذه التقسيمات والحزازيات. يسألونني عن البلد الذي فضلته على غيره، يسألونني عن القصة التي أؤثرها على سواها، فأبتسم وأرفض الإجابة: يجب أن نفكر أبعد من هذه الحدود والمعطيات، فلكل إنسان قيمته، ولكل قصة مساهمتها في رسم الواقع والحقيقة». وفي نظرته إلى الإنسان هو الذي التقى مئات الوجوه وسمع آلاف القصص يقول بون: «ليس الإنسان كائنًا سيئًا أو طيبًا، وهذا الجزم قبيح ومتزمت. الإنسان حيوان تعوزه المهارة والكمال، وكل شيء عدا عن ذلك نسبي، والأصعب من كل شيء هو أن نعيش معًا جميعنا».
ويفسر بون أكثر عن المشروع الذي تطور اليوم وأصبح أوسع وأكبر: «سنكمل في هذا المشروع التجميعي مع دار النشر، وستصدر مجلدات أخرى. كتاب آخرون سيبحثون عن القصص مثلي وسيدونونها، منهم مثلاً عمر أبي عازار وكريستوس كريسوبولوس اليوناني (Chrsitos Chrissopoulos) ومحمد الشناوي وغيرهم. وقاعدة المشروع في مرسيليا – جنوب فرنسا بينما دار النشر في تونس، ونحن اليوم على اتصال مع دار منشورات صنوبر بيروت أيضًا، سنجمع قصص المتوسط وندونها ونُخرِجها إلى العالم ليرى الآخرون حقيقة هذه البلاد وأهلها».
وهـــذه الأسابيع الستة التي أمضاها بون فــي بيروت كانت بهدف تجميع مادة لكتابه الجـــديد الذي هو في صدد إعداده. كتاب آخر وقصـــص جديدة وأسماء ووجوه وقطع من تاريـــخ المتوسط هذا البحر الذي يجمع حضارات متنوعة ومتعددة ومتضاربة في معظم الأحيان. وبينما نحن جالسون يتذكر بون أغنية الشاب رشيد «يا رايح وين مسافر» ويقول بابتسامة عفوية «هذه الأغنية هي أغنية هذا البحر الأبيض المتوسط وأهله، الجميع يسافر، الجميع يرحل، لقد أصبح البحر الأبيض المتوسط أينما كان ولم يعد محصورًا داخل بقعة الأرض الصغيرة هذه». الحروب هجّرت، الحقد، الطائفية، الحكام المستبدون، شعب بأكمله قرر الهرب من واقعه، من قهره عله يجد شيئًا من الحب. أما عن الحب فيقول بون: «الحب. الحب هو ما يدفعني إلى البحث عن الإنسان، هو الذي يحضّني على إيجاد القصص وإعادة كتابتها… الأدب على نحو ما، هو ضرب من ضروب الحب».

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى