علي مصباح يروي الاغتراب العربي الجديد في باريس

شعبات ناجي

«سان دني» (دار الجمل)، رواية للكاتب التونسي المقيم في ألمانيا علي مصباح، وهي موزعة على 35 قسماً، كل قسم معنون باسم إحدى مناطق باريس أحياناً، أو إحدى شخصيات الرواية نفسها في أحيان أخرى، لكن توجد بعض الأقسام اختار لها المؤلف أوصافاً متباينة، وذلك وفق الحالات النفسية لدى الإنسان أو المفردات الملازمة لطبيعته وتكوينه.
ينضم هذا العمل إلى الأعمال التي ترصد واقع المغتربين العرب لدى الغرب، ورؤية الآخر للوافد الشرقي، من دون أن يشعر المتلقي بوجود خلفية فكرية أيديولوجية مسبقة تتحكم بطريقة معالجة الكاتب لهذا الموضوع، بل إن الكاتب يحاول أن يكون متوازناً في إضاءة كل الزوايا المتعلقة بالمسرح الذي تتحرك عليه الشخصيات، كما يقدم – في تلقائية – صورة الغرب المتخيل في ذهنية الإنسان الشرقي.
تتناول رواية «سان دني» موضوع هجرة الشباب العربي ممن لا يتسع الوطن لأحلامهم العريضة، وحيث أفق الحرية أضيق من أن يلبي تطلعاتهم، لذلك يختارون مكاناً آخر يبحثون فيه عن الفرص التي يعوّلون عليها لإعادة بناء ذواتهم وتكوين مستقبلهم، إذ يتخيلون أن عالماً عامراً بالبهجة والحبور ينتظرهم وراء البحار، يجدون فيه كل ما ترغب فيه أرواحهم المتمردة، فيجمع الكاتب حكايات مجموعة من الشخصيات التي تتباين اهتماماتها والغايات التي تحدو بها لعبور المحيط، بحيث نرى كل حكاية كوحدة مستقلّة بذاتها.
نجد بين الشخصيات مَن يبلغ به السخط على الوطن إلى درجة لا ينعته إلا بِحُفرة نتنة، ويريد نسيان ما يذكره بما ذاقه من قسوة سلطة الأب والحكومة على السواء، وما عاش فيه من حالة الاختناق النفسي وغياب دفء الأسرة وحنانها، وهذا ما نراه في شخصية البطل علي الذي يستقر في «سان دني». فحالة النفور ومحاولة تعطيل الذاكرة الوطنية تشمل أيضاً عادل الذي يقوم بوظيفة السرد بأسلوب بانورامي، فهو على ظهر السفينة التي تقلّه مع رفاقه إلى مرسيليا، نجده وهو يلقي بفردة حذائه إلى البحر معلناً بذلك انفصاله التام عن الوطن المأزوم.
كان عادل طالباً متفوقاً لم يتوقف أساتذته الفرنسيون عن تذكيره بأن مكانه ليس تونس لذلك هو يريد الالتحاق بالسوربون واكتساب موقع علمي ومعرفي، لكن ما أن يصل إلى باريس حتى يكتشف حجم المعاناة التي ينغمس فيها بدلاً من الملذات المتخيلة التي قد غذَّت خياله هو ورفاقه.
رشيد بوراس الذي تعرف إليه الراوي في المبيت الداخلي يريد أن يُصفي حساباته مع ماضيه المؤلم المليء بصوَر الإهانة والإذلال، فيتنقل بين بارات باريس ويمتهن أعمالاً مشبوهة، يقتنص الصبايا الملاح اللاتي يصلن إلى العاصمة في محطات القطار، فهو لا يرحم ضحاياه ويتمادى في قهرهن واستخدامهن كسلع لجني الأموال. هنا نلتقي «جوزفين» وهي إحدى ضحايا رشيد والتي تريد الإفلات من قبضة هذا السفاح، فتهرب وتستنجد بعادل لكي يجد لها مخرجاً من مأزقها.
نصطدم بعد ذلك بشخصية «العرفاوي» الذي يبحث في باريس عما يعوض حرمانه في مرحلة الطفولة، وهو يحاول أن يوفر لأمه حياة لا تخلو من الرفاهية حتى ولو كانت أقدامها عند باب القبر، وعلى رغم أن المتلقي قد يعتبر العرفاوي شخصية غير سوية لاسيما وهو متورط في أعمال مشبوهة، غير أن الجانب الذي نكتشفه فيه وهو يتحدث بالحميمية والإخلاص عن أمه التي تفانت في الاهتمام به يقنعنا بأن الإنسان كائن يتأرجح بين الخير والشر، وهذا يذكرنا بشخصية «راسكولينكوف» في«الجريمة والعقاب» لدويستويفسكي.
وتمثل شخصية «فرانسواز» الجانب الإنساني من المجتمع الفرنسي وهي تهتم بالمهجرين الذين يعانون حالة الاكتئاب والعصاب بعد احتكاكهم مع واقع جديد صلب، وهي تواجه صعوبات كثيرة ومشكلات معقّدة في تعاملها مع أشخاص مثل علي الذي يريد أحياناً التخلص من مكبوتاته من خلال ممارسة العنف ضد الآخر، وهي الشخصية نفسها الموجودة في رواية شبه مجهولة اسمها «الجوع» لكاتب لبناني عربي يدعى خضير نبوة.
في المقابل توجد نماذج مغايرة لشخصية فرانسواز، وهنا نذكر آن ماري التي تتخلى عن عادل وتصفه بالواهم بعدما يعود صديقها من هولندا، إلى جانب ذلك يرسم الكاتب أنماط الحياة في مدينة باريس ويلمح إلى ما يفرضه المجتمع الصناعي القاسي من الالتزامات بحيث تظهر المدينة بصورة مصنع كبير لا يعيش فيه الإنسان إلا ككائن ذي بعد واحد يدعو إلى الملل والضجر.
ينتقل المهاجرون إلى باريس محملين بأفكارهم الثورية وبمشروعهم الكبير، إنهم يريدون أن تكون انطلاقتهم من باريس لتغيير النظام في بلدهم، ويساندون الحركات الطالبية من خلال كشف ما تنتهجه الحكومة التونسية من السياسة التعسفية، إنهم يرددون بأن لا مُجاهد أكبر إلا الشعب، غير أن ثمّة رفاقاً يحيدون عن النهج المتشدد ويأبون الالتزام بإجراءات حزبية صارمة إلى أن يحدث الشرخ بينهم ويوصم من يكون معترضاً على الحياة الحزبية بالميوعة والخيانة.
يبدأ التصدع عندما يتنبه بعضهم إلى أن مَن يساندونهم ويعتمدون عليهم لإنجاز ثورتهم لا يفهمون ما تنطوي عليه المنشورات الثورية، بل أحياناً يشيحون بوجههم عنها، وبذلك يتناثر الرفاق على المقاهي والحانات، وتندر لقاءاتهم، بل نراهم يضيقون ذرعاً ببعضهم بعضاً.
تتميز رواية «سان دني» بإيقاع صاخب وزخم بالشخصيات، بل يمكن اعتبارها رواية «الشخصية». وعلى رغم ذلك لا يتعاظم دور شخصية على أخرى، مع وجود الخلافات الواضحة في التفكير والأمزجة والطباع، فإنه يجمعها خط واحد وهو البحث عن وجه آخر للحياة. ويتأكد هذا الجانب لدى شخصية «المولدي» الذي يجد في السخرية والرحلة سلاحاً ناجعاً لمعالجة همومه وآلامه، ونجده يحذر أصدقاءه بأن تشددهم وتقديسهم لرموز يسارية ستنجم عنه ارتدادات معاكسة، وكأن القارئ يسمع أفكار علي مصباح نفسه على لسان المولدي، وهو ينصح أصدقاءه بالتحول إلى قراءة نيتشه، ودوركايم.
وعلى رغم أن باريس هي حاضنة مكانية مكينة تجمع في شوارعها معظم شخصيات الرواية في إطارها العام، إلا أن صورة تونس ومكان المنشأ من خلال جمل ومفردات شعبية مشحونة بالحنين لا تغيب في الفضاء المكاني فتحضر الأمكنة التي يتوافد منها المهاجرون إلى جانب الحي اللاتيني، لأن المكان الذي يزخر بذكريات الطفولة وصرخات الميلاد لا يمكن أن يفارقنا، بل يظل بما يحمله من الصور قابعاً في أغوار مشاعرنا ووجداننا، لذلك فإننا نلمس محاولة الكاتب استعادة علاقته بتونس من خلال فاطمة، حيث يفكر في الإقامة في الجزائر ليجاور الوطن الحبيب.
وفي النهاية يعود عقبة إلى تونس، فالراوي ينتهي به المطاف إلى أنه لا خيار أمامه سوى أن يبحث عن ذاته في تونس بعدما تبخرت الأحلام ولم يعد هناك ما يقنعه بالبقاء في باريس، وبذلك لا يختلف مصير عادل عن مصير شخصية إسماعيل في رواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، أو مصير مصطفى في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، كما تتماس الرواية في المجمل العام مع روايات «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و«شيكاجو» لعلاء الأسواني.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى