«المختبر الخامس عشر» السوري.. الراقص الأخير

سامر محمد اسماعيل

يعيد عرض التخرج السنوي «المختبر الخامس عشر» ـ (1 ـ 2 تموز، خشبة فواز الساجر) لطلاب قسم الرقص بـ «المعهد العالي للفنون المسرحية» (دمشق) ـ ألق الأيام الخوالي التي عاشها قرابة ستين راقصاً وراقصة حازوا درجة الإجازة في الرقص المسرحي، هاجر أربعون منهم إلى خارج البلاد، بينما بقيت قلة قليلة منهم تواظب على عروض متقطعة هنا وهناك، أو تسافر لتقديم عروض عربية ودولية مشتركة لتعود بعد ذلك إلى ورشتها الوطنية المغلقة.
أحمد جودة الراقص اليتيم الذي نال هذا العام (الليسانس) في الرقص المسرحي، بدا كأنه الراقص الأخير في ريبرتوار تفوّق لسنوات بنوعية عروضه وجرأتها الفنية والاجتماعية، بينما سانده كل من مها الأطرش وخاجيك كجه جيان، في عرضه الذي أشرف عليه الكوريغراف معتز مالطية لي، تاركاً الفسحة لراقصيه الثلاثة بصياغة مسرحية جسدية عن رجلين يقعان في غرام امرأة واحدة. قصة بسيطة إزاء متتاليات جسد خاطف كانت فاتحته عبر مادة فيلمية حققها مهند العلبي مصمم الإضاءة في العرض أيضاً، والذي لم يستطع أن يواكب الديناميكية اللافتة لأجساد الراقصين الثلاثة، بل ركز على ما يشبه «ممرات» بينية من الضوء جعلت الكتل الراقصة تبدو شاحبة ومبعدة عن منابع الإنارة المستخدمة.
المهمة الصعبة للضوء هنا أتت من عدم توفير حلول تقنية قادرة على الإحاطة بالرشقات الغزيرة للجمل الحركية التي قام بأدائها كل من جودة والأطرش وكجه جيان، معتمدين في ذلك على حضور عضلي لافت ومرونة باهظة دمجت بين حركات أقرب إلى الجمباز والمولوية والتمارين السويدية، جنباً إلى جنب مع مستويات معقّدة من قيام الجسد وجلوسه، رضوخه وتمنّعه، شهوته وإحجامه، ورغبته في كسر اللوائح والحواجز الاجتماعية والدينية والسياسية. ثلاثون دقيقة كانت حريةً بأن تجعل رجلين وامرأة مثالاً عن تلك النوازع والمشاعر الخفيّة التي لا يصلح إلا الرقص لتشريحها عبر الإيحاء والإيماء والإشارة، حيث يتقدم فن الجسد ليقول كل شيء، بدلاً من الالتفاف والمواربة في الحوار وصراع الشخصيات في المسرحيات الدرامية.
دراما جسدية
الصراع هنا بين الكتل الجسدية الراقصة أخذ شكلاً جديداً أيضاً لدراما جسدية كسرت الوحدات الأرسطية الثلاث، لتطرح نقاشاً مدويّاً عن الحب في زمن الحرب، بداية من الشاشة والماراتون الطويل الذي قطعه جودة وحيداً في شوارع المدينة، مروراً بالظهور على الخشبة ومحاولة استصراخ الجسد واستحضار ماضيه الحركي، ووصولاً إلى اعتبار الحركة حيوانا خالدا، لا وصيفاً لغوياً أو درامياً، فالجسد الذي طوّعته الحرب ونهشته قذائف الموت ومعارك ذوي القربى، خرج نهائياً في «المختبر الخامس عشر» من سطوة «الجسد الأب» بكل تبعاته السلطوية، منضماً بقوة إلى أشكال جديدة من الهوس بالحياة والاحتفاء بها، خارجاً عن مفردات العائلة القديمة، ليكون الرقص بمثابة العادة السرية كي يستطيع الأبناء تحقيق حلمهم بالعالم واستعادة ذاتهم المسلوبة.
العرض الذي أفاد من تيار الرقص المعاصر ومدارسه، جدد الدعوة للانتباه إلى بذور ثقافة حداثية كانت الحرب قد عرقلت نموها الطبيعي، ليخسر المختبر السوري الراقص خيرة نجومه، الذين يشتغل جزء كبير منهم اليوم مع فرق ومصممي رقص عالميين من أمثال الألمانية ساشا فالس والبريطاني ـ البنغالي أكرم خان، فيما أقدم مؤخراً راقصون سوريون على الاعتزال أو الهرب من الحرب أو حتى الانتحار، كما حدث في الثالث والعشرين من حزيران الماضي مع الراقص حسن رابح، وذلك عندما رمى الشاب السوري ـ الفلسطيني بنفسه من شرفة بيته الذي استأجره في «شارع الحمراء» ببيروت بعد نزوحه إلى العاصمة اللبنانية، مُنهياً بذلك خمسةً وعشرين ربيعاً برقصةٍ واحدة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى