معرض باريسي يعرّي جذور «جيل البيت» الفرنسية

انطوان جوكي

لا يمكن إهمال المعرض الضخم الذي انطلق حديثاً في مركز بومبيدو (باريس) بعنوان «جيل البيت: نيويورك – سان فرانسيسكو – باريس». فمن خلال عشرات الكتب والمخطوطات والرسوم واللوحات والصور الفوتوغرافية والأفلام والتسجيلات السمعية، يسعى منظّموه إلى بلوغ هدفين: الأول – مُعلَن ومطروق – هو خطّ محور تطوُّر هذه الحركة فكرياً وفنياً، وتمدُّد نشاطها جغرافياً، وبالتالي كشف الدور التاريخي الذي لعبته في تكييف معظم الحركات اللاحقة التي رفعت مثلها شعار الثقافة المضادة.
الهدف الثاني – مُضمَر والأهم في نظرنا – هو تفجير الفكرة الخاطئة التي لطالما روّج لها الشاعر ألان غينسبرغ ودافع عنها مؤرّخو الحركة الأميركيون، ومفادها أن «جيل البيت» هي ظاهرة خاصة بالولايات المتحدة ولا سابق لها، وبالتالي لا تدين بشيء إلى حداثة أوروبا وحركاتها الطليعية.
الصحيح في هذه الفكرة هو أنه كان من المتعذّر أن تولد هذه الحركة في مكان آخر غير أميركا نظراً إلى حجم التزمت الأخلاقي الذي كان سائداً في هذا البلد من جهة، وإلى موسيقى الجاز التي وُلدت فيه وشكّلت أحد مصادر وحي شعراء هذه الحركة، من جهة أخرى. ولكن هل هذا يكفي للجزم بأن جذور «جيل البيت» أميركية محض؟ في ما يلي بعض المعطيات التي نستخلصها من محتويات المعرض وتدفعنا إلى الإجابة بالنفي على هذا السؤال.
في العام 1943، أي في الوقت الذي كانت علاقة غينسبرغ وجاك كيرواك وويليام بوروس في طور الولادة في جامعة «كولومبيا»، أرسل الشاعر الأميركي فيليب لامانتيا – وكان في سن الخامسة عشرة – رسالة إلى أندريه بروتون يعبّر فيها عن شغفه بالحركة السورّيالية وإنجازاتها. وقد نشر هذا الأخير هذه الرسالة وثلاث قصائد للشاعر المراهق في مجلة «VVV». وفي العام 1955، شارك لامنتيا مع خمسة من رفاقه في إحياء تلك السهرة الشهيرة في «غاليري 6» التي قرأ غينسبرع فيها للمرة الأولى بيانه الشعري «عويل»، ويعتبرها النقّاد نقطة انطلاق حركة «جيل البيت». وحين نعرف أن هذا الشاعر لم ينكر طوال حياته التزامه بالمُثُل السورّيالية، وأنه كان يطلع غينسبرغ وكيرواك بانتظام على طبيعة نشاطات السورّياليين، يصبح من السذاجة عدم ربط سهرتهم المذكورة بالسهرات التي كان ينظّمها بروتون ورفاقه.
وعلى المستوى الإبداعي، يتعذّر إنكار التشابه الشديد بين الكتابة الآلية التي ابتكرها ومارسها السورّياليون ونثر كيرواك العفوي أو «الكلام – الفيض» في نصوصه ونصوص رفاقه الذي يرتكز على المبدأ نفسه ويبلغ النتيجة نفسها، أي ذلك الاندفاع العاصف لطاقة نفسية بلا كابح. وكذلك الأمر بالنسبة إلى طبيعة صور غينسبرغ الشعرية التي تقوم على تصادم كلمات وأفكار متنافرة، وتحمل بالتالي نكهة سورّيالية، مهما حاول هذا الشاعر رفض ذلك.
وقبل أن يستقر غينسبرغ وكيرواك وبوروس وجيسين في باريس (1957 – 1963)، كان قد سبقهم إليها في نهاية الأربعينات وجهان كبيران داخل حركتهما: الشاعر والناشر لورانس فيرلينغيتي الذي أنجز أطروحة دكتوراه حول المرحلة السورّيالية من مسار جاك بريفير، والشاعر كارل سولومون الذي شاهد بعينيه الأزمة الذهانية التي أصابت أنتونان أرتو أمام الجمهور على خشبة المسرح عام 1947، ما دفعه، فور عودته إلى نيويورك، إلى دخول «معهد كولومبيا للأمراض العقلية» طوعاً والإلحاح على طبيبه من أجل معالجته بالصدمات الكهربائية. وفي هذا المصح، التقى بغينسبرغ وسرد له بالتفصيل أزمة أرتو المذكورة، قبل أن يضع في ما بعد بحثه الشهير «تقرير من المصحّ» الذي ساهم في نشر فكر الشاعر السورّيالي الفرنسي ولغة كتابته التي تقوم على استخدام مكثّف للمحاكاة الصوتية (onomatopée). لغة تركت أثراً بليغاً على كتابة لامنتيا ومايكل ماكلور وشعراء سمعيين أميركيين كثر داخل «جيل البيت» وخارجه. ولا نعجب بعد ذلك من إهداء غينسبرغ قصيدته الشهيرة «عويل» إلى أرتو ومن توجيه تحية إكبار له داخلها.
وعلى صعيد آخر، لا يمكننا تصوير وجوه «جيل البيت» كروّاد طرْح موضوع التحرر الجنسي ونسيان النصوص السورّيالية الرائدة في هذا المجال. لا يمكننا أيضاً إهمال اللقاء الذي نظّمه الشاعر السورّيالي جان جاك لوبيل في باريس عام 1958 بين غينسبرغ وبوروس وغريغوري كورسو وبريون جيسين من جهة، وبروتون وبنجامين بيريه ومارسيل دوشان ومان راي من جهة أخرى. لقاء غاب عنه بروتون وركع غينسبرغ في بدايته عند قدمَي دوشان وقبّلهما بولع، قبل أن يقصّ كورسو ربطة عنق دوشان ويُضحك الجميع، معترفاً في ذلك بدينه ودين رفاقه للدادائيين والسورّياليين بالجانب التحريضي من سلوكهم.
وفي هذا السياق، لا بد أيضاً من ذكر زيارة غينسبرغ الى قبر غييوم أبولينر في العام نفسه، زيارة تأمّل خلالها في نتائج الدادائية وحاور الشاعر الفرنسي وكتب أحد أهم بياناته الشعرية الذي ينتهي بالجملة التالية: «أنا مدفونٌ هنا وأجلس قرب قبري تحت شجرة»، التي تعكس حالة تنافُذ مع أبولينر الذي كان غينسبرغ يعتبره أحد مؤسسي الشعر الحديث.
أما تقنية «التقطيع» (cut-up) التي ابتكرها جيسين ووظّفها بوروس بشكل واسع في رواياته «الآلة الرخوة» (1961) و «البطاقة التي انفجرت» (1962) و «نوفا إكسبرس» (1964)، فيردّ عدد من النقاد جذورها إلى نص تريستان تزارا «لتأليف قصيدة دادائية» الذي يدعو قارئه فيه إلى قصّ كلمات مقالة منشورة في صحيفة ووضعها في كيس، ثم خضّ الكيس وإخراج هذه القصاصات، واحدة تلو الأخرى، ورصفها وفقاً لترتيب سحبها من الكيس، من أجل بلوغ قصيدة دادائية فريدة. لكن المثير هو عدم انتباه أيّ من النقّاد إلى فقرة نقرأها في أحد نصوص لويس كارول الذي يسبق نص تزارا، ويقول فيها: «اكتبوا في البداية جملة/ ثم قطّعوا كلماتها/ ثم اخلطوا هذه القصاصات واسحبوها بالقرعة/ سيأتي ترتيب الكلمات/ مختلفاً كلياً!»؟
نذكر أن لفيفة كيرواك الأيقونية بالذات، التي شكّلها من الأوراق التي كتب عليها رواية «في مهبّ الطريق»، لا تعود فكرتها إليه، فالكاتب ماركيز دو ساد سبقه عليها بتحويله الأوراق التي كتب عليها «أيام سدوم المائة وعشرون» إلى لفيفة مشابهة يبلغ طولها 12 متراً. وحين نعرف من بورورس أن كيرواك قرأ جيداً ساد، يصبح مشروعاً الاعتقاد بأنه كان على علمٍ بلفيفة الكاتب الفرنسي قبل إنجاز لفيفته.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى