«منفى في المنفى» لهيام بسيسو.. العصفور الفلسطيني الهارب

سعود المولى

صدر في باريس كتاب لهيام بسيسو بعنوان «منفى في المنفى» عن «دار نشر غولياس» Golias (باريس 2015، باللغة الفرنسية، في 94 صفحة). قدمت للكتاب إيفا لاكوست الناشطة والمسؤولة في صفوف التيّار الكاثوليكي التقدمي، الذي يحمل نظرة نقدية إلى الكنيسة الكاثوليكية الرسمية ويتعاطف بقوة مع القضية الفلسطينية. الكتاب سردية نثرية وجدانية تمتزج بشهادات حيّة وتحمل صفحات شعر وتأمل في معاني المنفى الفلسطين.
في هذا النص، كتبت هيام بسيسو الفلسطينية الغزاوية، كلّ الأسى الذي حملته معها من منفاها الأول (من فلسطين إلى لبنان)، إلى المنفى الجديد في باريس حيث واجهت المنفى الثالث داخل المنفى… وهذا المنفى يتعلق بمعنى «أن تكون مجبرًا على الرحيل من بلد إلى بلد ومن بيت إلى بيت، وأن تُمنع من العودة، وأن تفقد معنى النوم والراحة»… «أن تكون مثل العصفور الهارب يتنقل من شجرة إلى شجرة ومن مكان إلى آخر». فهيام بسيسو بنت غزة وبيروت وباريس عرفت قهر الغربة وقهر المنافي وقهر القلق المفتوح على مدى الليالي.

الشهيد والشاهد
بدايات أعمالها كانت توثيقًا لمنفاها اللبناني: بين العامين 1974 و1981 شاركت هيام في أعمال «الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية» في لبنان، ومن خلال اللجنة الثقافية في الاتحاد ساهمت بنشر الكتاب التوثيقي عن مخيم تل الزعتر «الشهيد والشاهد». كما عملت في مركز التخطيط الفلسطيني وشاركت في الكتاب الصادر عنه «يوميات الحرب في لبنان» (صدر في جزءين وهو يغطي سنوات 1975-1976).
من توثيق الحرب واللجوء والموت والدمار كانت بداية عيشها مأساة المنفى. بعد خروجها من بيروت مع من خرج من الفلسطينيين نتيجة الغزو الصهيوني صيف 1982، سافرت هيام إلى باريس ونالت الدكتوراه في الأنثروبولوجيا عن أطروحة عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ثم عملت ضمن جهاز الديبلوماسية الفلسطينية في تونس، وقد عُينت مستشارة أولى في سفارة فلسطين بداكار قبل انتقالها مجددًا إلى فرنسا لتكون فيها ممثلة اتحاد المرأة الفلسطينية وكادرًا في مكتب منظمة التحرير بباريس. نشرت هيام بسيسو العديد من القصائد في المجلات الفرنسية وديوانًا بالفرنسية عنوانه «شرارة الليل الفلسطيني» (دار البراق – بيروت ـ 2009).

الطرد الباريسي
في كتابها الجديد تتحدث هيام عن طردها من مسكنها الباريسي في عام 2000 وهو البيت الذي عاشت فيه لمدة 15 سنة (الفصل الأول)… من هذا الطرد القسري تنسال الذاكرة وتسابق اللغة والكلمات، حيث تبحث هيام عن هروب جديد يحررها بعيدًا عن سجن المنفى المزدوج… تتذكر هيام البكاء المرّ مع صديقتها لويزة على طاولة مطعم باريسي كلّما مات فلسطيني ما في المنفى (وأقربهم إلى قلبها وروحها ابن عمها عاطف بسيسو الذي قتل في باريس في عام 1992) وحتى موت أمها وأبيها… ومن ذاكرة المنفى والطرد من بيتها الباريسي وجلجلة الشكاوى وجرجرة الاتصالات والمعاملات والروتين البوليسي والإداري المختلف عن أي روتين عادي بسبب كونها امرأة فلسطينية… تعود هيام محلقة إلى غزة لتصف ذكريات الطفولة العالقة في أهداب صور جميلة ملونة للأرض والشجر والأزهار والناس وللبحر والشواطئ… ويكون ذلك مناسبة للبحث في منافي النكبة والنكسة من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا.. كانت هيام قد عادت إلى بيروت عام 1986 لتجميع مادة لأطروحتها فقابلت العشرات من الأصدقاء ومن العائلات الناجية من المجزرتين… ثم عادت مرة أخرى في عام 2006 لتقوم بتجميع مقابلات جديدة ولكن مع الناس أنفسهم… لم تتغير شبابيك الانتظار ولا ملّت عصافير الجليل ولا فزعت كوابيس الملاجئ. المنفى يعيش مع الفلسطيني أينما كان وأينما حل… المجازر مستمرة والقنابل تتساقط والطرد يلاحق اللاجئ في كل المخيمات… والمنفى المزدوج (منفى في المنفى) هو ما تتعرض له نساء وبنات المخيمات اللواتي تنقل هيام شهاداتهن المؤلمة على امتداد صفحات الفصل الثاني من الكتاب. وفي ساعات الصحو والراحة كانت هيام ترى بحر يافا وصحراء القنيطرة ومخيم النصيرات في غزة… وتعود إلى ذكريات نساء صبرا وشاتيلا وتل الزعتر وعين الحلوة… في الفصل الثالث والأخير من الكتاب (عنوانه: العودة) تعود هيام إلى حلم العودة فترى جموع اللاجئين واقفة تتكلم مع العشب والشجر والجبل والبحر والشوارع الضيقة العتيقة والمساجد والكنائس والمقابر… عاد اللاجئون إلى أرضهم التي طردوا منها وبدأوا في البحث عمن بقي هناك من أهلهم.. وحين تطوى صفحة المنفى تعود الحياة أجمل وأبهى… مثل فلاح يزرع شجراته أول الموسم، منتظرًا وفنجان القهوة على طاولة في الحديقة، وصبحيات عطر الياسمين الفائح بإشراقات المستقبل…»حينها لن يتكرر انفصال الأرض عن أهلها»…

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى