شعر بلون الماء

محمد ناصر الدين

ونفوا ليس فقط شاعراً، انه بحاثة، ناقد تشكيلي ومترجم. اليأس والأمل يتلازمان في شعر شفاف يتساءل بدون توقف «ما هو العالم» شعره المائي الشفاف في صفاته يستعيد العلاقة المبتورة بعالم مفقود ويتردد بين ضوء مفقود وضوء مستعاد.

«أرغب بجمع الشعر والأمل، وإعطائهما التحديد ذاته، كتابة الشعر هي أن نعيد العالم الى وجه وجوده».
(إيف بونفوا)
شعر ايف بونفوا أشبه بغابة تبدأ من شجرة صغيرة، تتناسل الكلمات فيها كالوريقات، ويكون صوت الشاعر اشبه بالهواء الذي يلعب بالوريقات ويحركها. قد لا يعرف الكثيرون عن الرجل صاحب المؤلفات التي ربت على المئة في الشعر والفن والنقد الشعري والأدبي، أنه مترجم معتبر لشكسبير، وييتس، وكذلك لبترارك وليوباردي: تتخطى كفاءة بونفوا الحدود كلها لتثير الدهشة لا في تنوعها العجيب بل في وحدتها المركزية التي تتغذى ويشتد عودها في العلة الوحيدة للحياة والكتابة عنده، وهي الشعر. الشعر بالنسبة لإيف بونفوا ليس بالنوع الأدبي الذي يحجز خانة مسبقة له داخل نظام ثقافي معين، بل هو خميرة أصيلة مؤسسة، طريقة للحياة، في تماثل مع تلك الفلسفة القديمة التي كانت بالنسبة لبيار هادوت، في مؤلفه الشهير (Folio, 1995 ,La philosophie antique que ce Qu›est)، تعيش وتتنفس وتحب وتكره، في تمثل أبعد ما يكون عن النظريات الجامدة.
في احد كتبه الأخيرة، «اللامحتمل» (دار آلبين ميشيل، باريس، 2010)، بعنوانه الذي يذكرنا بكتاب بونفوا الأول في النثر «اللامتوقع» الصادرعام 1959، وعلى مدار عشرين مقابلة يجمعها الكتاب بين دفتيه، يبدو الشاعر مسكونا بهاجس أوحد: قول الأشياء على حقيقتها، بالقدر الأكبر من الدقة التي تلتصق بها الكلمة الشعرية بالعالم الداخلي للشاعر، في جملة تنسج صلات قربى مع الرسم، والموسيقى، والعمارة، وتختلط أيضا بالمقدس، والغنوصية التي وضع بونفوا كتابه الأخير عن صلتها بالشعر (La poesie et la gnose, , galilee 2016) والأساطير التي كتب بونفوا مقدمة بديعة من حوالي ستين صفحة لكتاب الرغبة والآلهة (Le Desir et les Dieux, Flammarion, 2014)، وكأن تلك العناصر مجتمعة تتشارك في فك الرموز التي يحملها الشعر في طريقة أبعد ما تكون عن حكمة جامدة أو جنون جامح، بل تقترح لكل قارئ للشعر أن يبتكر طريقته الخاصة في الخلق، اي بإعادة كتابة الشعر من قلب التجربة والمغامرة، وإمساك القارئ من يده بإعطائه مفاتيح ثمينة من المغامرات البدائية الأولى في النقش والرقص وابتكار الآلات التي تقلد صوت الريح والرعد، الى الرياضيات والعلوم التي افتتن بها بونفوا في مطلع شبابه، في توفيق عجيب بين التجريد الرياضي الى المتواليات الحسية والبصرية الفنية، في بحرالشعر الذي يستوعب الروافد كلها: يضع بونفوا قارئه على العتبة التي تسمح له أن يبدأ منها تجربته مع الشعر. يسأل أيف بونفوا على طول مؤلفاته الأخيرة، سؤالا مربكا في بساطته وبديهيته: (ما هو هذا العالم؟ Qu›est ce que ce monde)، وهل بمقدور الإنسان التقاط معنى ما لهذا العالم، أم أن الانسان محكوم بطبيعته بغربة أزلية؟ تبدو الإحالات المتكررة الى شكسبير، والفن الايطالي في عصر النهضة، والى جياكوميتي وغويا، والسوريالية التي طبعت تجربته مع مجموعة من الشعراء في فترة ما بعد الحرب الثانية (1945)، كأنها ترجمة للجملة الافتتاحية الرامية الى جمع الشعر بالأمل، لإعادة العالم الى وجه وجوده عبر الشعر. إن ثيمة الوجود هي ثيمة اساسية في شعر بونفوا، رافقته منذ اعماله الأولى في رحلة البحث عن الصوت «الطويل والممتلئ»، بواسطة عصا الشعر، الوجود في أصل العالم، في الواقع الذي يضرب في تجاويف الاشياء، وبحيث يكون الشعر تلك العتبة التي تسمح لنا بالدخول الى هذا العالم الشفاف والرقيق، حيث يستريح الضوء وينتظر عودتنا، في احالة الى عالم المثل الأفلاطوني: («أكاد أوقن أننا قد عشنا الساعة التي انطفأت فيها، غصنا بعض غصن، زينة العيد في المساء»).

اليأس والأمل
تحدى ايف بونفوا الصور الشعرية التي لم تفلح في إنقاذ العالم من فوضاه، وتوجه بقوة الى الملموس، بدرجة لا تصل الى خشونة غيفيك أو بونج في التعامل مع الواقع واستدعائه، بل يكفي لهذا الواقع أن يظهر في تجويف كل كلمة عند بونفوا، حاضرا وغائبا في كل جملة، في الكلام وفي الصمت، وكأن العالم موسيقى بيضاء، تكون فواصل الصمت فيها في صلب المقطوعة. («الكلمات كمثل السماء/شيء يتجمع ثم يتبدد/ الكلمات مثل السماء/ لانهائية/ الكلمات تسقط كلها في حفرة صغيرة»). يحفر ايف بونفوا في قلب العلاقة التراجيدية الموجودة في كل الأشياء، فارضا على اليأس والأمل أن يمشيا جنبا الى جنب، ولكن بعيدا من كل التيارات النظرية، والايديولوجيا، معيدا غنائية الاشياء الى الضوء (المقاربة الشعرية للواقع)، بمقاربته القائمة على («الاحتفاء بعظمة الأشياء البسيطة») والثقة مجددا بالكلمات التي تكون نداء حتى وإن كانت مظلمة. كانت اطلالة ايف بونفوا على الساحة الشعرية بديوان أول صدر عام 1953 بعنوان («عن حركة وسكون دوف – Du mouvement et l›immobilite de Douve) وقد قوبلت كتابة بونفوا المنبثقة من السوريالية ، الكثيفة والشفافة في آن بترحاب كبير في الوسط الشعري الفرنسي الذي أظهر حساسية إيجابية كبيرة في حينها لجملة مثل («كنت أراك تركضين فوق أرصفة، كنت أراك تعاندين الريح، والبرد ينزف فوق شفتيك»).

كن أبي
ولد ايف بونفوا في مدينة تور عاصمة مقاطعة اللوار، مقاطعة قصور ملوك فرنسا عام 1923، من أم ممرضة، وأب يعمل في سكة الحديد على خط باريس-اورليان، هذا الأب الذي سيفقده بونفوا مبكرا عام 1936، والذي سيحضر بقوة في قصيدة (كان الرجل عظيما -L›homme etait grand) في كتابه الأشهر الألواح المنحنية ( Mercure de France, 2001 ,Les Planches courbes) على لسان الشاعر الذي يخاطب المارد («أتوسل إليك، كن أبي، كن بيتي») فيجيب المارد بصوت خفيض («يجب نسيان كل هذا، يجب أن تنسى هذه الكلمات، بل الكلمات كلها»). ترك إيف بونفوا دروسه الباريسية في الرياضيات عام 1943 ليتفرغ بشكل كلي للشعر وتاريخ الفن، ليدخل في قطيعة ثانية مع الحركة السوريالية لإعتباره (ان الثورة الشعرية الأهم في هذا القرن لا يمكنها أن تمر عبر مجانية الكلمات)، ليختلط ببول سيلان، بيار جان جوف، اندريه دوبوشيه، فيليب جاكوتيه وجاك دوبان، وليدرس الفلسفة بين عامي 1948 و1953. ترجمته لشكسبير وإشتغاله على تاريخ الفن ساهما كثيرا في خلق تلك التقاطعات المذهلة بين الشعر والفن، والرسم خصوصا، في أعمال بونفوا والدخول في العالم الحميمي لدولاكروا، وبوسان، وجياكوميتي، واوروبا الباروكية، مما قاده الى صياغة كتب مشتركة مع أصدقائه الرسامين أمثال تابييس، فان فيلد، أليشينسكي، خوان ميرو وغيرهم، وليقوده حبه للأساطير الى وضع كتاب مرجعي عنها (قاموس الاساطير، Dictionnaire des mythologies, Flammarion, 1981)، وحيث يحضر عوليس، وأورفيي، وسيريس (Ceres) بصورة متكررة.
يبدو متعذرا من خلال هذه المقالة أن نحيط بعالم إيف بونفوا الشعري، من ديوانه الأول (حركة وسكون دوف) مرورا بالألواح المنحنية وانتهاء بالشعر والغنوصية، كتابه الأخير قبل أن تنطفئ شعلة حياته منذ أيام قليلة عن أعوام تربو على التسعين: تكاد لغــة ايــف بونــفوا الشــعرية أن تكون شفافة من كثرة صفائها، تســتعيد العــلاقة المبتورة مع العالم والأماكن الأولى، حتى نكاد نسمع فيها صوت الماء فوق الحــجر (الصوت والحجر، كتاب مترجم لبونفوا عن دار الجمل، 2007)، بحيث تطفو الكلمات ألواحا منحنية بين الضوء المفقود والضوء المستعاد. شعر ايف بونفوا في مائيته الشفافة أقرب الى بيت شعر عربي يتيم ومذهل لمحمد بن عمار الاندلسي (1031 م): «جريح بأطرلف الحصى كلما جرى/عليها شكى أوجاعه بخريره.»

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى