سيرة زهيرة زقطان تمتزج بأسطورة المرأة العربية

عمر شبانة

ما بين الاشتغال على النص السرديّ، والانشغال بالنصوص الشعريّة، والعمل في مجال البحث في الميثولوجيات الفلسطينية/ السورية القديمة، والانهماك في عالم التطريز والأشغال اليدويّة، تتنقل الشاعرة والباحثة والفنّانة الفلسطينية زهيرة زقطان، في حقل فسيح وشديد العمق، حاملة فلسطين وهويّتها، تاريخها وأساطيرها، ملاحمها وواقعها الرّاهن، مجسّدة عناصر هذه الهوية ومكوّناتها في إبداعاتها، من خلال التعدّد والتنوّع في وسائل التعبير وأساليبه. هذه العوالم تتجسّد على نحو واضح في ديوانها الجديد «الساهرات أصبحن خارج البيت» (الدار الأهلية، 2016).
تحفر الشاعرة في هذه النصوص الشعرية، كما في أعمالها الأخرى، في المساحة التي تجمع الواقع والأسطورة، بأسلوب محمّل بالرموز و «العلامات» القادرة على «تمثيل» البُعدين المتداخلين. ولهذا الحفر الإبداعيّ، كما يتبيّن لقارئ الكتاب، أبعاد شعرية تخييليّة، مثلما تمتلك الأبعاد المعرفية والحكائية، التاريخية والأسطوريّة «المُشعرنة». ومن الجمع بين هذه الأبعاد تكتسب نصوص الكتاب فرادتها وتميُّزها.
تتّخذ شخصية «عشتارت» أو «عشتروت»، مثلاً، أبعاداً تمثيلية شديدة الثراء والعمق. فهي تأتي في صورٍ مختلفة، تتقمصّها صاحبة النصوص لتجسّد شخصيّات من الواقع المعيش. وفي نصوص زهيرة هذه، تحضر مفردات تحيل إلى الحضارة الكنعانية، كالأرجوان مثلاً في وصفها «أثر صَدَفة البحر في طريقها بالأرجوان إلى بيتك»، أو صورة «باب بكفٍّ من نحاس مقدود من بقايا صنج عتيق»، وأسماء الآلهة والكهنة و «آلهة الجبل المقدّس في أعالي صافون»، والأمكنة الحضارية العتيقة (أوغاريت)، وتحضر المرأة على نحو شديد البروز، في صورة المرأة/ الآلهة، لتمتزج بصورة نساء الواقع.
الأهمّ في استحضار الأسطورة، والمرأة الأسطورية خصوصاً، ليس حضورها بذاتها أو لذاتها، فهي لا تحضر على هذا النحو المقصود بـ «الذات» فلسفيّاً، بل إن الكاتبة تتكئ على بعض مكوّناتها وعناصرها، لتبني من خلالها «أسطورتها» الخاصة والشخصيّة، وأسطورة المرأة الفلسطينية، وربّما المرأة عموماً، كما هو الحال في هذه الصورة عن «أصابع أخواتي النسّاجات من بقع الأصباغ»، أو «النسّاجات… نساء شاطئ أوغاريت»، أو صورة «امرأة رأيتُها في كتاب النحاس»، أو الأمّ التي «تغني من أجل أولادها الغائبين… تغنّي في المعبد ليحفظ الإلهُ إخوتي من سهام الحثيّين».
وفي نصوص زهيرة أساليب ولهجات، ولغة تقارب لغة الكتاب المقدّس، الإنشاد والمزامير، لغة مكثّفة وتنطوي على مقدار من الإشارات الجنائزية، أو لغة المراثي «عاد من نوبة الحراسة من أحبّ، لن أوقظه حتّى يشاء، هو ميت… هو لي وأنا للغياب»، لكنّها محمّلة بل مسكونة بالرّاهن، ولا تنفصل عن سرديّات الكاتبة في روايتها وقصصها وزخرفات تطريزها. عالم أرادت «أسطرته» بوصفها من حفيدات الإلهة عشتروت، و «ابنة الحطّابة» التي «ترفو ثقوب عمرها أمام القتلة».
وفيما هي تتنقّل بين الحضارات والأمكنة، تتقمّص الشاعرة ما يلائم سيرتها، سيرة امرأة فلسطينية، فنجد أنها «ابنة الأدومية» التي تمرّ عن «حطّابات الحقول في طريقهنّ إلى بيت الرب»، وهي التائهة «في زحمة القادمين من البحر: في يوم السوق، سوق أوغاريت». أو تدخل بنا «في مملكة «يمّ»: تفرد حِجْرها لهزائم النساء»، ثمّ تنقلنا في «مراكب التجّار من مصر، وورق البردي لكاهن المكتبة».
ويكثر في هذه النصوص الحديث عن ثنائية الأمّ/ الإخوة، ومرة أخرى تتداخل وقائع الراهن مع التاريخيّ/ الأسطوري «سأجعل الشجر يبكي لو ذهبوا: حين تعود أمّكِ بإخوتك الغائبين/ لا تقولي لها: إنّي تألّمت، هي الآن تغسل أكتافَ إخوتك من سهام الحثيّين/ نظّفت العتبات من أثر الجنود/ مسحت عربة (بعل) بزيت الأدعية»، كما ترسم شيئاً من عوالم الحروب، حيث امرأة تحمل على كتفيها الماء و «ترشّ الطلَّ على الشعير».
ومن عالم الكنعانيين و «بعل»، تنتقل بنا إلى بغداد الراهن والتاريخ والأسطورة، وصورة غلغامش، على خلاف ما عرفناه لم يعد رائياً، إنه «الذي لم يرَ كلَّ شيء»، وهنا «على خشبة المسرح عزاء متأخر لإنكيدو: قصص حب خاسرة لنص بلا خلود عن عشبة ميتة». ثم تمزج هذا التاريخ بتاريخ الهنود الحمر، في «أرض الصيد السعيدة»، إذ ندخل وطن الهنود الحمر قبل أن تقام أميركا على جثتهم.
وتأخذنا إلى أسْرَتها، عالم الوالدة «الواقعيّ»، إلى تفاصيل غرفتها، وديوان شقيقها غسّان زقطان، وقبر الأب، و «نساء كثيرات الآلام» و «الصورة التذكارية/ العصافير المطرّزة على ملمس الحَبَر/ قرية زكريّا (هي قرية الشاعرة)/ الابنة التي لم يعد لقلبها مكان على أكتاف الذاهبات». ونراها في صورة بنيلوب «بمغزلها إلى الشاطئ/ انتظار عوليس لعنة الآلهة»، وتختم كتابها هذا بـ «الزائرة» لتذكّرنا بمرحلة من رحلتها مع «العشّابات الذاهبات إلى مزارع الكرامة (المقصود مخيّم/ بلدة الكرامة التي جرت فيها المعركة الشهيرة باسمها حيث عاشت زهيرة طفولتها ونشأتها الأولى). وتنتهي بما هو أجمل، بـ»البنت التي مرّت/ تشبه باقة من النعناع/ وردة دفلى».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى