بيتر استرهازي.. رحيل المجري الاستثنائي

اسكندر حبش

قد لا نكون كقراء عرب على معرفة بيّنة بأعمال الكاتب المجري بيتر استرهازي – الذي غيّبه الموت نهاية الأسبوع الماضي عن عمر 66 عاما بسبب المرض (الذي جعل منه موضوعا لروايته الأخيرة «يوميات البنكرياس الحميمة») – إذ لم يُترجم بعد أيّ من أعماله إلى العربية، مع أن غالبية كتبه تُرجمت إلى لغات كثيرة. في أي حال، هو واحد من أبرز الوجوه الكتابية المجرية المعاصرة، وقد وصفت أعماله بأنها «ما بعد حداثية» وكان من المرشحين الدائمين على لائحة جائزة نوبل للآداب.
ولد استرهازي في 14 نيسان 1950 في بودابست، وهو ينحدر من عائلة أرستقراطية قديمة، هم «آل استرهازي» (في غالنطة)، إلا أن النظام الشيوعي جردها العام 1948 من ثروتها، وفق ما كانت تقتضيه الحالة السياسية في تلك الفترة. درس الرياضيات في بداية حياته، ومن ثم أصبح مهندسا في المعلوماتية، بيد أن الأدب سحبه من تلك الحياة ليتفرغ للكتابة.
بدأت شهرته الأوروبية العام 1988 بعد أن ترجمت روايته «نفحات» إلى الفرنسية، ليكتشف القارئ عالما أدبيا مخالفا لما كان سائدا ضمن مناخ «الواقعية الاشتراكية»، إلا أن عمله الأساسي في مسيرته في تلك الفترة، كان رواية «هارمونيا سماوية» التي تقع في 600 صفحة، يتحدث فيها عن قرنين من تاريخ عائلته، بدءا من أجداده زمن الأمبراطورية النمساوية – المجرية وصولا لفترة اضطهادها من قبل النظام الشيوعي. رواية لا تعيد فقط سرد وقائع تاريخية بقدر ما تبدع «تاريخا» فانتازيا لبلد كان يدخل «إلى غياهب التاريخ»، وحين ترجم الكتاب إلى الانكليزية، وجد فيه الكاتب الأميركي الكبير جون أبدايك «صاعقا كهربائيا» من ناحية اللغة كما من ناحية الحيوية والفكاهة والسخرية، ما جعل استرهازي واحدا من الكتّاب الذين يحظون بحضور واحترام في العالم الأدبي.
روايته هذه كانت أيضا بمثابة تحية إلى والده الذي كان يحظى بتقدير كبير من ابنه. لكن بعد سنوات من صدور الكتاب، وبعد نشر «الأرشيف السوفياتي» الخاص بثورة «بودابست»، تفاجأ استرهازي بأن والده لم يكن سوى مخبر عند البوليس السياسي. عن ذاك الاكتشاف قال: «لم يتشقق العالم الذي شيدته حول والدي فقط، بل انهار كليا». وليعيد «تصحيح مسار التاريخ» قرر أن يعيد كتابة تلك السيرة مجددا ليصدر كتاب «مراجعة وتصحيح» الذي أعاد فيه الحديث عن تاريخ عائلته، بمعنى آخر أعاد تصحيح ما كتبه في «هارمونيا سماوية» ليعلن فيه عن حزنه وغضبه. هذه الكتابة الجديدة لرائعته الأولى شكلت نقيضا للكتابة الأولى، إذ لم تتضمن أي حس فكاهي ولا أي فانتازيا، كما وجدناهما سابقا. لهذا جاء الكتاب على شكل تناوب في الأصوات، بالأحرى هو تناوب ما بين صوته «المشتت» (من جراء اكتشافه لحقيقة أبيه) وصوت والده «الإداري وغير المرن» (كما يقول).
بعد نشره لهذا الكتاب، تساءل كثيرون عن كيفية نهوض استرهازي من «جحيمه». ولم تطل الفترة إذ نشر بعد سنوات قليلة، وبطلب من صحيفة ألمانية، كتاب «رحلة إلى أطراف الـ16 مترا»، وهو كتاب تأملي في لعبة كرة القدم وبخاصة عن المنتخب المجري الأسطوري الذي ضم بين صفوفه في الخمسينيات عمالقة اللعبة من أمثال بوشكاش ودي ستيفانو وغيرهما، وكان من المرشحين للفوز ببطولة العالم لكنه انهزم ـ بمفاجأة ـ أمام المنتخب الألماني في المباراة النهائية، مع العلم أن المجر قد فازت على المانيا في الدور الأول 8 ـ 3.
في أحد كتبه الأخيرة «ليس سؤالا فنيا»، عاد استرهازي للكتابة عن محيط عائلته. فبعد أبيه في كتابه السابق، تحدث في كتابه الجديد عن أمه، ليستعيد من خلال سيرتها أسلوبه الذي يزاوج بين القسوة والفكاهة، ليقدم فيه «بورتريه» لجسد والدته الذي كان يتدهور بفعل السنين.
بعد أن فقدت المجر في آذار الماضي كاتبها الوحيد الذي حاز نوبل للآداب، ايمري كيرتيش، ها هي تفقد اليوم كاتبا آخر تميز بتنوعه اللغوي والأسلوبي، والذي كان من المحتمل أن يحوز لها نوبل أخرى، ليبقى لها المرشح الثالث بيتر ناداس (73 عاما) الذي يعتبر آخر الكتّاب المجريين الكبار.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى