مو يان يروي قسوة الواقع بالأسطورة والفكاهة

انطوان جوكي

بعد «ضفادع» (2011) و «عشيرة الذرة الحمراء» (2014)، أصبح بإمكاننا اليوم قراءة رواية أخرى بالفرنسية للكاتب الصيني مو يان (نوبل 2012) بعنوان «عشيرة ماضغي القش» (دار سوي الباريسية)، يفلت العنان فيها لمخيّلته الجامحة، مستعيناً مرةً أخرى بفنِّه السردي الفريد بأشكاله وتقنياته المتعددة.
استقى مو يان مادة هذه الرواية من المحيط الذي وُلد وترعرع فيه، وبالتالي من ثقافة القرويين الصينيين الذين لطالما واجهوا بحسٍّ فكاهي وخيالٍ خصب بؤسهم والمجاعات التي اختبروها خلال القرن الماضي واضطهادهم على يد الحكومات الصينية المتعاقبة. وقد انطلق يان في كتابة روايته مباشرةً بعد قراءته رواية ماركيز «مئة عام من العزلة» وإعجابه الشديد بها، ما يفسّر سيره هذه المرة على أرضية الواقعية السحرية في سردية معقّدة تغوص بقارئها داخل عالمٍ معجون بالأساطير والرؤى والأحلام، تقطنه كائنات بشرية غير عادية، قادرة على تحويل الواقع والارتقاء به حين يصبح لا يطاق.
ولعل خير تعريف بهذه الرواية هو ذلك الذي نقرأه على لسان أحد رواتها: «سينتهي بي الأمر يوماً كاتباً ومخرجاً لمسرحية جديرة بهذا الاسم، يتسلسل فيها ويتداخل الحلم والواقع، العلم والسحر، الحب والدعارة، النبل والخساسة، الجمال والغائط، الماضي والحاضر».
تقع أحداث الرواية في أهوار إقليم غاوومي حيث تعيش عشيرة يعاني أبناؤها من عدم فهم جيرانهم إياهم، بل من عدائهم، ليس لأن سلفهم الأسطوري هو مهرة سحرية، بل لممارستهم على مدار الساعة طقساً غريباً يقوم على مضغ قشٍّ أحمر يتحلى بفضائل فريدة. ومن هنا تسميتهم ب- «عشيرة ماضغي القش».
في مطلع الرواية، نراهم يكابدون من أجل وضع حد لغزو جحافل الجراد إقليمهم للمرة الثانية، المرة الأولى حصلت قبل خمسين عاماً، حيث يتبيّن بسرعة أن عواقبها الرهيبة ما زالت حيّة في نفوس المسنّين في هذه العشيرة. عواقب لا تتمثّل فقط بالتهام الجراد محصول تلك العشبة الحمراء التي يمضغونها يومياً وتحفظ أسنانهم سليمة وناصعة البياض، بل زرعهم كلّه، ما يهدّدهم بالمجاعة والموت.
على هذه الخلفية الكارثية تتسلسل سرديات الرواية الست التي تبدو للوهلة الأولى مستقلة، قبل أن يتّضح تدريجاً ترابُطها وأيضاً تشابُك الأحداث المسرودة داخل كل منها مع قصص وأساطير وذكريات وخصوصاً أحلام. هذا التشابُك يؤدّي غالباً إلى اختلاط أزمنة السرد وعناصره الهجينة بطريقة تستحضر إلى الأذهان حبكة الحلم ونمط سيره. وهذا ما يفسّر ترقيم الكاتب هذه السرديات وسَلسَلتها كما لو أنها أحلام، وأيضاً تيه القارئ داخلها باستمرار، علماً أننا نتابع القراءة حتى النهاية بمتعة كبيرة محمولين بعنصر التشويق وطرافة السرد وغنى تفاصيله وشخصياته.
«كل عملية سرد يقطعها دوماً، جيلاً بعد جيل، صبية نافذو الصبر وعِطاشٌ بإفراط إلى المعرفة»، يكتب يان في الصفحات الأخيرة من روايته. وهذا ما يحصل لقصص الحب أو الجنس أو الانتقام التي يسردها الرواة في هذا العمل، وتبدو كما لو أنها تصلنا من عمق التاريخ، علماً أن معظمها حديث، إذ تتعرض بشكل ثابت إلى القطع ليس فقط على يد مَن يتلقّاها من شخصيات طفولية أو مراهقة داخل الرواية، بل أيضاً على يد الرواة الذين يعمدون إلى الاستطراد أو إلى تشييد الظرف التاريخي لكل قصة أو الإضافة عليها من مخيّلتهم الخاصة.
وبالتالي، لا تواصُل في حبكة الرواية يساعد على قراءتها. التواصل الوحيد والمثير الذي نستشفّه فيها، ويسعى الروائي إلى إحلاله، هو بين البشر والحيوانات والنباتات، وحتى بين الأحياء والأموات. وفي هذا السياق، نراه ينبش فكراً أقدم من الإدراك العلمي وأعمق من مذهب المركزية البشرية الغربي، لرسم مشاهد خارقة مروية بتفاصيل حسّية غزيرة تمنحها حضوراً ملموساً لا مجال للشك فيه. مشاهد تتكلم الخنازير فيها وتسير على قدمين، ويطير الراوي في فضائها، ويتحاور الأموات مع الأحياء، بينما يولد الأطفال بأصابع متّحدة أو ملتصقة بسبب انغلاق العشيرة على نفسها وزواج الأقارب المنتشر فيها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن داء التصاق الأصابع (syndactylie)، الذي يصيب الراوي الرئيس، يمنح الرواية أحد خيوطها السردية، إضافة الى الظهور الثابت لتلك المهرة التي يتردد وقع حوافرها على طول النص، قبل أن يتبيّن في النهاية أنها سلف العشيرة الأول.
وفي السياق عينه، تنقلب القيَم داخل الرواية، فيصبح السفلي علوياً، والعلوي سفلياً، ويأخذ الروث مكانه في أسمى المشاهد، ويسير الجنس يداً بيد مع القسوة، ويفكّر البطن بطريقة أفضل وأكثر حذاقة من العقل، ويتمتّع الزمن المدمّر بقدرة على الإحياء. أما الطرافة التي لا حدود لها فتتحكّم بسير الأحداث وطريقة سردها.
هكذا تبدو الرواية ملحمة ريفية جنونية يتعذّر تلخيصها، لعدم خضوع عناصرها السردية الغنية لأي تشييد منطقي، ولتحطيم يان داخلها قوانين الرواية الكلاسيكية بجعله من الواقع ركيزة للميثة والحلم والخارق، ومن الميثة والحلم والخارق ركائز للإمساك من دون قفّازات أو مواربة بآفات بلده. ذاك البلد الذي ما زال الريفيون يدفعون غالياً فاتورة تحوّله السريع وسعي المسؤولين فيه المسعور إلى لعب دور ريادي في الاقتصاد العالمي، وما زالت النساء ضحايا سلوك جنسي عنيف وبدائي من جهة الرجال، وما زالت السلطة السياسية تقمع بقسوة كل من يعارضها في الداخل أو يتناول تاريخها الشيوعي الدموي أو ينتقد تخفّيها اليوم خلف قيم اشتراكية لم تعد سوى شعارات فارغة.
وأبعد من الصين، تشكّل رواية مو يان أيضاً استعارة قوية لعالمنا الحالي بعنفه وتقلّبه الثابت وتعذُّر فهمه، عالم لا يترك للإنسان الذي يقطنه سوى فرصة الضياع، والفكاهة لمن يمتلك حسّها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى