جمالية السرد المغلق في «رسائل حب مفترضة» للعمانية ليلى البلوشي

محمد يوب

1 ـ مقدمة لابد منها: لقد ظهر أدب الرسالة بعد توسّع الفتوحات العربية والإسلامية وتأسيس الدولة؛ نتيجة لبعد المسافة الجغرافية بين المرسِل والمرسَل إليه؛ مما خلق حاجة إلى اعتماد الكتابة وسيلة للتواصل .
وفي الوقت الحاضر هناك من يقول باختفاء جنس الرسائل الأدبية؛ وهذا كلام لا أساس له من الصحة؛ إذ أن أدب الرسائل لم يختف من الساحة الأدبية وإنما بسبب تسارع نبض الحياة تغيرت وسيلته في التعبير؛ فخرج من عباءته التقليدية، ليواكب عصر السرعة والعولمة والإنترنت؛ أي أنه انتقل من مرحلة التراسل عبر الكتابة إلى التراسل عبر التواصل الاجتماعي التي تعبر عن واقع العصر ومستجداته؛ من خلال الإيميلات والواتسابات بالصوت والصورة، بل أكثر من هذا لم يعد جنس الرسائل الأدبية محاطا بنوع من السرية، إذ أصبح عرضة للتجسس من خلال قرصنة الحسابات والاطلاع على أسرار المتراسلين (الكاتب هو أكبر متلصص في تاريخ البشرية) .
ويعد تاريخ البشرية هو تاريخ الرسائل نفسه؛ فقد عرف ازدهارا كبيرا في المشهد الثقافي الأوروبي؛ بحكم حرية التعبير لكنه ظل شديد الحياء في عالمنا العربي بحكم العادات والتقاليد التي تحكم المجتمعات العربية؛ ومن أشهر المراسلات نذكر الرسائل المشهورة بين غسان كنفاني وغادة السمان وأخرى بين مي زيادة وجبران خليل جبران، ومن أبرز الرسائل الافتراضية المتخيلة «رسائل حب مفترضة» بين هنري ميللر وأناييس نن للكاتبة العمانية ليلى البلوشي.

2 ـ في عمق الرسائل

من جميل صنيع السرديات الأدبية أنها تقتحم حياتنا وتكشف أسرارنا؛ تشتغل على إبراز أشكال تعبيرية كادت أن تزول لولا حضور السرد فيها؛ ومن أبرز هذه الأشكال نذكر فن الرسائل؛ الذي يعتبر من فنون الكتابة النبيلة عبر الأجيال والعصور، تناولته الأقلام من سائر الأمم والشعوب؛ وماتزال حتى الآن الوسيلة التى تربط بين الأفراد والأقارب والأصدقاء؛ وحتى الأعداء أحيانا؛ تعبر عن آرائهم تجاه بعضهم بعضا؛ وتفصح عن مكنونات صدور كل واحد منهم.
وكثيرا ما يفتتِنُ القارئ عندما يكون وجها لوجه أمام عمل أدبي صادم يثير كثيرا من الشجون والحنين إلى ماض ولى وبتنا نعيش ذكراه؛ وهذا ما عشتُه شخصيا وأنا في حضرة «رسائل حب مفترضة» للكاتبة العمانية المقيمة في الإمارات ليلى البلوشي؛ حيث تسللتُ خلسة إلى رسائلها المتخيلة من خلال القراءة المتمعنة؛ للكشف عن مدى مصداقية هذه الرسائل وإلى أي حد استطاعت الكاتبة الاستئثار باهتمام المتلقي وإيهامه بحقيقة ما تحكي «هذه الرسائل من قلب وفكر ليلى أما من الكاتبين الشهيرين هنري ميللر وأناييس نن فهما مجرد افتراض».
لقد انحرف السرد القصصي في رسائل الحب؛ وخرج عن خط سير القصة المألوف إلى معادل سردي من نوع آخر شديد الارتباط بكل واحد منا، كُتابا وقراءً؛ فغالبا ما نتذكر في حياتنا في فترات معينة ونحن أبطال رسائل حب عشناها في الواقع أو في الخيال، فأضحت عملا سرديا نحن من كتبه أو عاشه؛ أو كتبناه بالنيابة عن آخرين لم تكن لهم القدرة على الكتابة. وراء هذه الرسائل كاتبة رهيفة الإحساس؛ استطاعت بطريقة السرد القصصي هتك أسرار الرسائل المفترضة التي تبادلها كل من الروائي الأمريكي هنري ميللر، والمؤلفة الأمريكية من أصل إسباني أناييس نن «أناييس نن؛ تلك الأنثى المخاتلة… الراقصة الإسبانية وعارضة الأزياء وموديل الفنانين والنحاتين»، في الفترة الزمنية التي شهدت علاقة حب وود بينهما وهي الفترة المحددة بين 1903/1977 معتمدة في ذلك لغة أدبية آسرة؛ زاخرة باللحظات الموحية من دون الوقوع في فخاخ السرد القصصي المباشر؛ كسرت رتابة تكرار المعنى المعهود في الرسائل وبثت اللذة الجمالية والاستمرار في الاجتذاب الذي يغري المتلقي. هذه الرسائل فيها ثراء روحي وعاطفي على الرغم من أنها مرت عبر بوابة الفضاء الإلكتروني؛ جسّدت سرّ إنسانية أدب الرسائل (لن يشبع google فضولي الشره…ملمعة سيرتك وكتاباتك معروضة كتحف نفيسة في واجهات الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية) .
فبهذه الرسائل استطاعت الكاتبة أن تؤسس لحوار مثرٍ بين أديبين كانا يمارسان تجاه بعضهما بعضا، ومن خلال فن الرسالة لغة الحب والجمال؛ والنقد البنّاء فيغتني واحدهم بتجربة الآخر ونصحه. في هذه الرسائل يمكن للقارئ رؤية شخصية الكاتبة ليلى البلوشي المرهفة وهي تنعكس عبر تلاوين الكلمات؛ متناولة تفاصيل حياة هنري ميللر وأناييس نن بعفوية ومن دون تفلسف أو تعقيد؛ غير أنها لم تستطع كشف الأسرار بتفاصيلها نظرا للحرج الذي تتسبب فيه البيئة العربية الخليجية خاصة.

3ـ جمالية السرد المغلق

تعتبر هذه الرسائل بمثابة الصوت الداخلي للكاتبة؛ كتبتها وهي في حالة من الصفاء الذهني، استعرضت من خلالها ثقافتها ولغتها ورؤاها الفلسفية والفكرية، حيث عباراتها الأدبية جاءت أنيقة في غاية التجويد والإتقان. وقد اعتمدت ليلى البلوشي في «رسائل حب مفترضة» على تقنية السرد المغلق؛ انتقت مواضيعَها من رسائل متخيلة لم تخرج عن فضاء غرفة الدردشة المغلقة؛ مما كان له تأثير على تكبيل خيال الكاتبة بعدم التعبير عن اللحظات الساخنة في هذه الرسائل وإخراجها إلى العلن؛ إذ أنها بقيت في حدود اللائق والمقبول من الكلام؛ لكن من حين إلى آخر تبدأ الغرفة في الانفتاح عندما تأخذ الدردشة ذروتها وإثارتها من خلال بعض الألفاظ الساخنة «أنا هنري…حبيبك…طفلك الشقي…خذيني يا هوائي….ضخي روحي بأكسجين رئتيك…وحين ينفتح ولعك أغرسي جنون أظفارك حيثما تشائين واثقبيني..». لترد عليه أناييس «هنري…آآآآآه ياهنري…أيٌّ من الرجال أنت؟». فالقارئ لهذه الرسائل يمتلك مفتاح السرد المغلق بحسه ووعيه من خلال مدلولات جنسية أطلت برأسها من بين السطور؛ ومن خلال الكلمات «على الرجل وحده…انتزاع.. سلب.. تلك الرغبة إن سلماً أو حربا.. وذلك وحده يعتمد على رقي الرجل وثقافته المتراكمة في التصرف..». إن هذا المقطع؛ مثقل بدلالات جنسية واضحة؛ اعتبرت المرأة حجرة مغلقة ينبغي اقتحامها بالسلم أو بالقوة؛ مقطع أدبي صاغته الكاتبة بلغة راقية غير خادشة للحياء؛ احترمت فيها مشاعر القارئ وذائقته.
لقد كان للكاتبة القدرة على التعبير بشكل متخيل عما كان يدور بين هنري ونن بلغة مواربة التفَّت حول المعنى من دون تسمية الأشياء بمسمياتها؛ وتركت للمتلقي الذكي فرصة الإضافة والمشاركة الفاعلة في ملء الفراغات؛ وقد تمكنت بذلك من إخراج ما كان يدور بين هذين الكاتبين من الغرفة المغلقة إلى الضوء والعلن.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى