الوطن الذي يأكل أبنائه

خاص ( الجسرة )

فيلم “ثلاث مسامير فقط – زحل يلتهم ابنه” لأحمد الحاج

*عبد الكريم قادري

يعد الفيلم الروائي القصير من أكثر الأجناس السينمائية والإبداعية تعبيرا عن الهم الإنساني، والذات المتألمة، والكبت بكل تجلياته، خصوصا إذا ما كان مخرجه يمتلك المرجعية الثقافية اللازمة، والبُعد الإنساني، روح التجريب، والمغامرة الإبداعية، و استطاع أن يُحدث القطيعة مع القوالب الجاهزة ويبحث لنفسه عن آليات تعكس توجهه وبصمته، أي أن يتعامل مع منتجه بحب وثقة، ويُغلب “الأنا” فيه، ليطرد “الآخر” المُسيطر عليه.
هذه المعطيات الفنية والفكرية التي طرحتها وجدت مجملها إن لم أقل كلها في فيلم “ثلاث مسامير فقط – زحل يلتهم ابنه” للمخرج السوري أحمد الحاج (1990-)، الذي استطاع عبر ست دقائق وخمسين ثانية – المدة الزمنية للفيلم- أن يحكي قصة إنسانية عن الألم، العذاب، الخوف، الكره، والتجني، استطاع أن يُسرب فكرة “السببية”، وقد أحسست بأنه يقول بأعلى صوته، بكلام غير منطوق، وبشفاه غير متحركة ” هذا ما حدث لكم لأنكم خنقتم أصواتنا، هذا ما حدث لكم لأنكم صادرتم آرائنا، هذا ما حدث لكم لأنكم لا تؤمنون بالحرية والانعتاق، وتلجئون إلى تفتيت أجسادنا بأسواط جلاّديكم…” وطبعا كانت النتيجة على عكس ذلك تماما، كانت الفوضى والخراب والموت والدم والانتقام، كل هذا غذاه الجلاد بتصرفاته، وبدل أن يعود إلى جادة الصواب، ويفتح صفحة جديدة، رجع مرة أخرى إلى جلاديه وسياطهم، إلى عادته القديمة، التي تؤدي إلى نفس النتيجة، وبدل أن يكون الضحايا شخص ومحبين، اجتمعا على الحب، بين جدران المُعذب، وفي الموت، اتحد النصف والنصف وصار كلا، والقلب اكتمل في الموت وصار ينبض بعد أن كان معطلا في الحياة، أصبح الثلاثة، أربعة، خمسة، جدار وجدارين وجدران، تعالت الأصوات، هذه هي قصة فيلم المخرج أحمد الحاج كما فهمتها، عرفت بأن هناك جلاد وضحية، الجلاد يستعمل نفس الأسلوب وينتظر نتيجة مغايرة.
يبدأ فيلم “ثلاث مسامير فقط – زحل يلتهم ابنه” من خلال مشهد مجسم بداخله شخص، يتحرك يمينا وشمالا، أعلى وأسفل، وكأنه طقس ما، مصحوب بموسيقى كلاسيكية، وكأن الأمر يتعلق بتشييع شخص على قيد الحياة، تشييع وطن، بعدها يُسافر بنا هذا المخرج “الرائي” إلى جدار ما، حيث تم تعليق ثلاث لوحات، كل لوحة عبارة عن بورتريه ما، لرجلين وامرأة، كل واحدة منهم يبدو بأنه يصيح من شدة الألم، كل هذا مصحوبا بنهيم الفيل، وهذا ما يوحي بشدة الألم وقسوته، بعدها ينتقل المخرج إلى مشهد آخر حيث تم تلطيخ اللوحات بالدماء، وكل هذا مصحوبا بدوي الانفجاريات وصفارات الإنذار، ما يُوحي بأنّ السيل قد بلغ الزبى، وأن الذي يجري جاء نتيجة للذي حدث لأصحاب اللوحات الثلاث، تسقط اللوحات وتتبعها المسامير المعوجة، واجتمع الحبيب الميت مع حبيبته الميتة، وشكلا ثنائيا، ليُعيد الجلاد الكرة مرة أخرى ويدق مسامير أخرى، لأشخاص آخرين، وبينهم وبين جنباتهم أحد أهم وأشهر اللوحات الفنية التي رسمها الاسباني “فرانشيكو جويا” التي تُصنف من ضمن اللوحات السوداء التي رسمها هذا الفنان الذي عاصر بعض محاكم التفتيش، وغزو بونابارات، والانجليز لبلده، وهي لوحة تعكس أسطورة يونانية يعكسها شخص “كرونوس” الذي يقوم بالتهام أبنائه عند ولادتهم خوفا منهم على العرش، وقد سردت هذه الأسطورة لأن هناك قواسم مشتركة كثيرة بينها وبين الفيلم، إذ يمكن تأويلها بالوطن أو النظام الذي صار يأكل أبناؤه.

13692207_1139486929445366_1371606528_o

جاء الفيلم إنسانيا إلى أقصى حد، حيث يمكن أن يعكس هم المواطن المخنوق في تشاد أو بولونيا مثلا، كما يمكن أن يعكس المواطن والوطن في سورية أو مصر أو ليبيا، لأن الألم واحد، من الناحية الفنية جاء العمل مثقلا بالتجريب والتكثيف، صاحبه لا يجيد التحدث كثيرا، بل يذهب مباشرة إلى الفكرة للتعبير على ما يجول بخاطره، وكل هذا طبعا من خلال جمالية ووعي كبيرين.

*سكرتير تحرير مجلة “السينمائي”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى