‘كاس دموع .. واحد’ .. قراءة متأنية

( الجسرة )

*يس الفيل

علامة استفهام كبيرة ارتسمت أمام عيني، وأنا أتلقي ديوانين من الشعر في آن واحد. أولهما “مكابدات” لشاعر الإسكندرية الكبير الدكتور فوزي خضر: أما الديوان الثاني فهو “كاس دموع .. واحد” لزوجته الشاعرة نجوى السيد.

للحظات معدودة تتملكني الحيرة ويتجسد التناقض أمامي شبحاً مخيفاً. ذلك أن الشاعرة تتفجر حزناً وألماً وبكاء لمرض ولدها، ومن ثم يتدفق نزيف قلبها أسياناً على امتداد اثنتين وعشرين قصيدة هي حجم الديوان الصادر عن اتحاد الكتاب المصري. بينما ينصرف الشاعر عن هذا الهم الذاتي، إلى هموم البشر ومكابدات الحياة رغم أنهما يتجرعان معاً مرارة الكأس الذي فاض بمرض ولدهما (محمد) القاسم المشترك بينهما.

علامة الاستفهام الكبيرة طرحت أمامي عدداً من الأسئلة، وفرضت علىَّ التجوال في دروب الأدب ومنعطفات التاريخ، لأغوص في مستنقع الحزن الموروث، ولأتسلق أشجار الصبر التي نرويها بدموع أقلامنا، منذ اخترنا التعبير بهذه القلوب المكلومة عن أحزاننا.

لقد تصورت القبيلة العربية منذ اتخذت الشعر وسيلة للتعبير عن معاناتها أن الحزن لا يليق بالرجال، أولئك الذين انصرفوا للفخر والهجاء – حتى لقد تحولوا إلى متحدثين رسميين، يرفعون من قدر مجتمعاتهم، ويُعْلُون من شأنها إلى الحد الذي تبدو فيه الصورة معكوسة تماماٍّ، حينما يبالغ الشاعر من قدر النطفة – قوة ومنعة – دون إحساس منه بأنه قد تجاوز الحقيقة بقوله كاذباً :

إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً ** تخر له الجبابر ساجدينا

ولعل حياة البداوة، وما فرضته على الرجال من شجاعة، وتجمل بالصبر واحتمال للمكاره، إضافة إلى ما يحتملون من مشاق، أظهرها أنهم المسئولون عمن يعولون .

لعل هذه المعيشة الغليظة الجافة، قد أعدت للنساء دوراً آخر، بما يتناسب مع انفعالاتهن بالتجارب الإنسانية، وقدراتهن على تجسيد الإحساس بالألم، استجابة للعاطفة المرهفة لدى المرأة، وعوناً بها على ما تواجهه من صعاب، لتقوم بدورٍ لا بد منه، في مجتمع كل من فيه يعمل.

من هنا كانت هي لسان القبيلة الباكي، بقدر ما كان هو لسانها السياسي المعبر عن صراعاتها وتطلعاتها .

ورغم أن الحزن مشاعر إنسانية عامة يتساوي فيها البشر، وإن اختلفت جنسياتهم وتباينت ألوانهم وتفاوتت معتقداتهم، إلا أن شاعرتنا وهذا الحزن يسيطر عليها كليةً، لم يصبها بالشلل، ولم يفقدها القدرة على التعبير عن أدق الخلجات. وما ذلك إلا لإيمانها الراسخ بقدرة الخالق العظيم على تحقيق المعجزة، التي بدونها لن يُكتب لولدها النجاة من المحنة التي اكتشفها الأطباء في باريس :

قالوا ذكاؤه سبب العلة

قلت صحيح سبحان الله

العبقري ينصاب في المخ

واللي ذكاؤه قليل يرتاح.

من هنا تجيء قصيدتها “معجزة” مكثفة ومركزة، تصور إيمانها المطلق بالقدرة الإلهية بتحقيق ما يراه البشر مستحيلاً .. حيث تقول :

اللي يِمْرِضْ هوَّ ربي

واللي يِشْفِي هو ربي

لا اعتراض على القدر

لولا إن الرب رب المعجزات

والشفا للوِلْد أصبح معجزه

لا نتهي العمر اللي جاي

وانتهيت من عمر فات.

وهي بهذا الإيمان الراسخ، تعلو على المحنة، وترتفع على الألم، ومن ثم تنجو من العزلة والكبت والاكتئاب، وبقية الأمراض النفسية القاتلة، حيث تتعلق بحبال الأمل التي لا تنقطع أبداً.

إن المطالعة الواعية لهذا الديوان تؤكد أن الحزن ليس مجلوباً ولا مستعاراً حتى تنسج منه الشاعرة حلة قد تستهوي القاريء أو لا تستهويه، وإنما هو حزن الواقع، تبرزه منذ الإهداء صفحة 5 بقولها: تمنيت أن يعينني الصبر والإيمان.. لعل دعائي يصبح مستجاباً، وحتى آخر صفحة، حيث يؤكد الناشر: أن الديوان تجربة متميزة، تدور قصائده حول معاناة أم لمرض ابنها، وعجزها عن مداواته خلال مواقف مختلفة وأفكار مبتكرة وصور شعرية متفردة.

ومنذ القصيدة الأولي في الديوان تؤكد الشاعرة، انعدام الفرح في حياتها، حين ترى هذا الفرح يملأ كاساته لسواها .. لكنه يجافيها دون ذنب جنته :

وفضلت أترجّاه

علشان عيون الواد

يا فَرْح هات لي كاس

وهُوَّ موش داري

وأما التفت لينا

ما كانش باقي معاه

غير كاس دموع واحد.

وهي لندرة الفرح في حياتها تتوجع، مخافة أن تذرف الدموع، وكأنما هى ممن عناهم الشاعر العربي بقوله:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماءِ

والسبب في ذلك كما تستهل قصيدتها “أمر الطبيب” حيث تقول :

محروم ضنايا م البكا بأمر الطبيب

وإزاي أسامح نفسي لو دمعي انفرط؟

وليس هذا بمستغرب على من تعيش الحياة بواقعية، لكن مأساوية الأحداث تفسد عليها ما تعيش وتعايش .. تقول في أسي بالغ”

من حقنا مَرَّه ..

يا رحلة يا مُرَّه ..

نفرح ولو ذَرَّه .

حتى ذرة الفرح معدومة. وهل هناك أضأل شأناً وأصغر حجماً من الذرة، تشتهيها. ولا تحصل عليها، ورغم ذلك لا تمل من البحث عن الوسيلة التي تبلغ بها شاطئ الأمان. تقول”

يا مركبه فِينِكْ

إنتِ وْمجاديفي؟

غمَّضتي ليه عينك

ولا عدتي بتشوفي؟

أرأيت بساطة أروع من هذا؟! أو تلقائية أنفذ إلى شغاف القلب من هذه؟

وكما نرى .. فالديوان لا يقتصر على الأمنيات، تعبر عن الصبر في سذاجة، وإنما هو بالغ الدلالة، عميق الأثر، على استجابة الشاعرة لهذا الحزن النبيل، الذي تنقله إلينا بتشظيها على السطور ولوعة، مما يعِّودنا مشاركة الحزاني أحزانهم، وإن لم تربطنا بهم الروابط الحياتية المكررة والمعادة .

وبعيداً عن قصيدتها الملحمية “أمر الطبيب” التي تجسد قضية الألم وتلخص المعاناة القاتلة والأحلام المجهضة، والأمل الذي لم يتحقق بعودتها من رحلة العلاج في بلاد الغربة مُحْبَطة. وابتهالها الضارع الذي تستعيده كتعويذة لا تمل تكرارها :

“يا حيُّ يا قيوم / إشفي ضنايا م المرض / رجَّعني وف حضني الولد للدار وللأحباب” .. بعيداً عن كل ذلك، فإن استعطافها للصبر لا ينتهي، وحوارها معه لا يتوقف. فهذا تصوير عميق لصبر هذا الابن، وذلك تعبير محزون عن صبرها هي، وتلك دمعة خرساء لأم مكلومة، كل ما فيها صابر، حتى جزئيات كيانها المتداعي حزناً وألًما. تقول في قصيدتها “يا رحلة يامُرَّه””:

الفرح سافر من زمن

من يومها واحنا بنمتحن

صبر وإيمان ..

وتستطرد :

رضَّعته من صدري مرار الصبر

لكنه .. بعد الصبر .. نلقي طريقنا سد

حتى وهي تذوى بأحزانها، فإنها لرقتها المفرطة، تعتذر لهذا الصبر، إذا هي اضطرت تحت ضغط الأسي أن لا تسجيب له :

يا صبر سامحني

لو يوم شعرت بإني مش طايقاك

لو مره جيتني وقلت موش عايزاك

لكني أرجع لك

وأغني في الموال

وأقول يا صبر جميل.

وما أعظم كبرياء الألم حين يرتفع فوق الضني والدموع، تقول الشاعرة الصامدة نجوي السيد في قصيدتها “مهما اتخنق”:

لا أشتكي ولا أنذلّ

صابره وعمري ما أملّ

والعجيب أن يضج الصبر بالشكوي منها. تقول في قصيدتها “الصبر صديق”:

أنا والصبر اصحاب من عمر

ولا بشكيش من طعم المر

راح وشكاني .. وقال مَلِّيت

كل ما احاول أبني وأعلِّي

ألقاني في لحظة اتهديت.

ورغم ذلك فهى – على الهم – لا تخلو من الحسد :

قالوا يا بختك أنت وابنك

حد يطول يوصل لباريس

خفت أقول عقبالكم زيي

أحسن يقبل ربي الدعوه.

ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. تقول أيضاً :

واللي ما يعرفشي حكاية الِولْد..

يتمني يكون إحنا

ومهما نشيل

صَبُوره يا كتافنا.

ويطول الحديث عن ملحمة الصبر في هذا الديوان المتواضع حجماً، المتضخم مضامينَ أسيانةً، ورؤي شاكيةً باكيةً متأملةً، والذي لم يقف عند حدود التراث، وإنما يتعداه إلى تشكيل الصورة الكلية التي لا تنتهي بانتهاء السطر الشعري، والذي لم يدع مفردة تصور الجزع من المرض والتسليم بما كتب الله، إلا وأوردها والذي صور إيمان الشاعرة الذي لم يتزعزع، سواء أكانت في أحضان النيل تطرق أبواب الأمل، أم في عاصمة النور باريس، تتحسس الطريق لعلاج ولدها .

وربما لاحت للقاريء ضحالة في الموسيقي، أو أحس بضعف التلاحم العضوي فيما عرضت من لقطات شعرية، تبرز المعني وتنميه، وذلك لأني كنت أقتطع – فقط – من نسيج القصيدة ما يدلل على الرؤية التي أود طرحها عن شعر هذا الديوان. على تضفير الإحساس الصادق مع الصياغة الجيدة، حيث تقول في قصيدتها “جري بس إيه”:

أفش في صوتك

وحتي في سكوتك

باحس وباعرف

إيه اللي مداريه

يا نور الليالي

يا قمره قبالي

إذا غبت قوللي

أنوَّر بإيه؟

ويحسب للشاعرة أنها تعتمد على التفاصيل الصغيرة في الحياة، واستخدامها ببراعة، للتأثير في المتلقي، وإنما هي الموهبة الحية من ناحية، والرصيد الثقافي من ناحية أخري، مع صدق التجربة التي أججت مشاعرها، من ثَمَّ تعانقت العاطفة الجياشة مع الفكر العميق في توصيل التجربة الثرية إلى المتلقي.

وحبذا لو خلا ديوانها “كأس دموع .. واحد” من بعض القصائد التي تشكل جملاً اعتراضية في النسيج العام أمثال (اللي وقع يتصَلَّح ) و(شوق) وأضرابهما.

أخيراً: أؤكد صادقاً أن المرأة، وإن كانت أسرع تأثراً بالفجيعة وأكثر حزناً عند المصيبة من الرجل، فإن هذا لا ينفي أن بعض الرجال ضربوا أروع الأمثلة في مضمار الحزن حينما سكبوا مشاعرهم أنغاماً، وأحالوا أحاسيسهم ترانيمَ حزنٍ على من سقطوا فريسةَ النوازل من ذويهم. لكنني أُجْزِمُ بكل يقين أن ديوان الشاعرة نجوي السيد “كاس دموع .. واحد” غير مسبوق في شعرنا العامي، وأنه تفرد في بابه، حيث يمثل بكل الصدق، لهفة أم على ولدها النابغة الذي يلتهمه المرض دون رحمة. ودون أن تجد ممن حولها سوى التعاطف المظهري، وسوى الحزن المرسوم على الوجوه بأقلام الزينة، بحسبي أن أشد على يدها على هذا الإصرار النادر على السير حتى نهاية الشوط وإن جرحتها أشواك الطريق.

المصدر: ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى