إدواردو لورينسو ومعجزة الشعر في زمن الأزمات

( الجسرة )

هل يمكـــن بحثاً فكرياً أن يكون سعيداً؟ لا، يجــــيب المفكّر والكاتب البرتغالي الكبير إدواردو لورينــــسو الذي تجاوز عامه التسعيـــن منذ ثلاث سنوات ولم يـــر في ممارسته الحصرية للكتابة سوى محـــنة شخصية ورؤية مأسوية للعالم. هذا ما يستخــــلصه على أي حال قارئ نصوصه المختارة التي جمعتها دار «غاليمار» في كتاب صدر حديثاً تحت عنوان «حياة مكتــــوبة». نصوص منشّطة للذهن بإشراقاتها والمعرفة المذهلة التي تسيّرها، وتتمحور حول موضوعين مركزيين في عمل صاحبها: أوروبا والشعر البرتغالي. نصوص قصيرة نسبياً، ولكن ذات كثافة نادرة، سواء تعلّق الأمر بالفيلسوف مونتاني وبرفضه تحويل مكامن ضعفه إلى حكمة شاملة، أو ببحث الشاعر فرناندو بيسوا عن المعنى وأزمته، أو بالثقافة الأوروبية وفقدانها منذ فترة ذلك الجانب الكلي الجامع الذي لطالما ميّزها.
ثمة كآبــــة وحنيــــن في هذا الكتاب يشكّلان خيطـــاً خفياً يعبر معظم نصوصه، وينبعــــان من شعورٍ حاد بالفقدان ومن رفضٍ مستفــحل له في آن. ففي بعض هذه النصوص، يركّز المفكّر خطابه على ذكرى الإمبراطورية المفقودة باعتبارها رحم الأسطورة المؤسسة للثقافة البرتغالية الراهنة. ذكرى حاضرة في المخيّلة البرتغالية أكثر من أي وقت مضى، وتبدو مطبوعة بنوع من الخلاص التوراتي. ولفهم ذلك، يعود لورينسو بنا إلى القرن السادس عشر، حين تمكن ذلك البلد الصغير والقليل الشأن في أوروبا، البرتغال، من فرض نفسه في ملعب التاريخ بتشييده أول إمبراطورية بعيدة عن حدود مركزها.
وفي هذا السياق، لا يتردد في تقديم ديوان الشاعـــر البرتغالي لويس دو كــامـــويس (1525 – 1580)، Les Lusiades، الذي اضطلـــع فيه بسرد ملحمة البرتغال البحرية، باعتباره «الكتاب المقدس» لأبناء وطنه الذين يحنّون، بوعي أو بلا وعي، إلى «الإمبراطورية السرمدية». ديوان صــــدر بدوره حديثاً عن دار «غاليمار»، فــي سلسلة «شعر»، ويحمله البرتغاليون داخلهم كما لو أنه وطنهم الحقيقي، نشيدهم وبيانهم، خصوصاً أنه يمجّد الكاثوليكية الغالية على قلوبهم. باختصار، يلاحظ لورينسو أن تحوّل هذا الكتاب الشعري إلى أيديولوجيا، وهو مسألة نادرة في التاريخ، يعود إلى بقاء الإمبراطورية البرتغالية التي توارت منذ زمن طويل حيّة في الحلم واليوتوبيا. ليس الحلم بقوةٍ، كما اعتدنا لدى سائر أبناء الإمبراطوريات السابقة، بل الحلم بضعفٍ، «حلم ملحمي يشكّل هاجسه الرئيس قدر البرتغال بالذات».
ومــــن هذا المنطلق، يعمد المفكّر إلى تعريف الشعر في نـــصــــوص لاحـــقة، فـــيــصـفــه بالمعجزة النادرة كالنعمة، ويرى فيه ما يسمح للبشر – وللبـــرتغاليين تحديداً – بالاتحاد بواسطة الرموز، وأيضاً ما يخلّصهم من العزلة والمحدودية حين لا ينـــــعمون بفرصة أن يكونـــوا خارج ذواتهم وفي مركز كل شيء.
ومن بين ما يقوله أيضاً في هـــذا الـسياق هو أننا نقترب من الجوهري بفضل ما يميّز الشعراء ليس فقط عن سائر الكتّاب، بل أيضاً عن سائر البشر عموماً، أي تلك العلاقة بالكلمات التي هي نورٌ يسمح بقراءة العالم، «كلمات معلّقة في وظيفة قول العالم وتحديده، من أجل تحويله إلى عالمٍ مخلوق بواسطتها».
منذ خمسة عشر عاماً، استنتج لورينسو أن الإحباط الداخلي لمواطنيه خفت لشعورهم بعيش عصرٍ ثقافي ذهبي بفضل الإشعاع المتجدد لشعرهم وسائر فنونهم، متسائلاً حول ديمومة هذا الشعور. وها إن السنوات الأخيرة تؤكّد استنتاجه مع ظهور أعمال أدبية وفنية جديدة وإعادة الاعتبار لأعمال سابقة. ونخصّ بالذكر هنا أعمال الشعراء أوجينيو دي أندراد وهربرتو هلدر ونونو جوديس التي تُرجمت حديثاً إلى الفرنسية، إلى جانب أعمال أنتونيو راموس روزا وبيسّوا.
في كتاب لورينسو الأخير، نقرأ أيضاً ثلاثة نصوص خصّصها لبيسّوا، وتحديداً لعلاقته بـ «إروس» (نزعة الحياة) ووظيفته المسارّية. ومن بين ما يكتبه حول هذا الشاعر هو أنه قدم إلى عالم الكلمات في الوقت الذي اضطر هذا العالم إلى مواجهة أزمته الحداثوية الكبرى، أي ما يسمّيه المفكّر العطل العام الذي طرأ على المعنى، أو حين تصبح الكلمات عاجزة عن قول الأشياء. وقد جاءت أعمال بيسّوا كمحاولة مجنونة وقلقة للعثور على حلٍّ أو مخرجٍ مـــن هذا الخلل في الرموز والمصطلحات. وفـــي هذا السياق، يشير إلى إمكانية قراءة كتــاب الشاعر الشهير، «كتاب اللاطمأنينة»، كتمجيد لعلم القواعد، حيث اللقاء الفريد بين الكائن والمعنى، الذي يفضي إلى عالم ذهني يقع فيه كل ما لا ينتمي إلى نظامٍ ما داخل السديم. فصحيح أن الخطأ بشري، لكن حين يتعلق الأمر بواجب اختيار الكلمات الصائبة، لا يمكن التسامح مع مَن يقترفه.
أما النص الأخير في كتاب لورينسو فيعود بنا إلى مفهوم الكآبة بمعناها البرتغالي (saudade)، أي كما حدده الشاعر البرتغالي ألميدا غارّيت (1799 – 1854) كـ «عذاب لذيذ مـــن شوكةٍ قاسية»، ننتشي فيه بما هو غير منجَز. كــآبة تختـــلف عن الحنين بتجذّرها فــــي ما هو أعمق من العاطفة: ذلك الإحساس بـ «الاحتراق داخل الزمن من دون الاضمحال أو التـــلاشي»، ذلك الإدراك المادي واللاواقعي لزمنيتنا، لـ «الكلِّ الذي يدوم من هذا اللاشيء حين لا يتبقى أي شيء» (أونامونو). نأسف فقط لأن لورينسو، في اللحظة التي ينكشف فيها أفقٌ جديد ومدوخ خلف محاولته الإمساك بما لا يوصف، يختم نصه سريعاً بقوله إن موسيقى باخ ومالر وحدها قادرة على منح الخاص بُعداً شاملاً، فنبقى بوحدنا على عتبة هذا الأفق، مترنّحين.

المصدر: الجسرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى