يوميات دبلوماسي فرنسي في سجن مصري

( الجسرة )

*مصطفى عبدالله

سعدت كثيرًا بتلقي نبأ صدور كتاب “وجبة المساء” عن المركز القومي للترجمة في مصر، وذلك لعدة أسباب أهمها أنني وقفت على الجهد الكبير الذي بذلته الدكتورة رشا صالح في ترجمته عن الفرنسية بلغة عربية رائقة ووعي نقدي لافت لم يتسبب في خيانة النص الفرنسي، بل نقله بأمانة وتصدي لتحليله، وكانت قد أتاحت لي فرصة قراءة مخطوطة هذه الترجمة قبل الدفع بها إلى المطبعة بمجرد أن علمت أنني أعرف مؤلفه المستعرب الفرنسي الكبير أندريه ميكيل، الأستاذ في الكوليج دو فرانس وأول من رشح نجيب محفوظ في الغرب لنيل جائزة نوبل، وكنت التقيته عدة مرات في مصر وخارجها؛ كانت إحداها في احتفال مصر بفوز محفوظ بنوبل.

والثانية مع أستاذنا يحيى حقي عندما وجهت لنا الدكتورة هيام أنور أبوالحسين وزوجها المترجم الراحل الدكتور سيد عطية أبوالنجا، رئيس قسم الترجمة الفورية بالمقر الأوروبي للأمم المتحدة بجنيف، الدعوة للقاء ميكيل في صالونهما الأدبي بمصر الجديدة.

وهذا الكتاب الذي يحمل عنوانًا فرعيًا كاشفًا هو “يوميات دبلوماسي فرنسي في سجن مصري” يسجل فيه مؤلفه وقائع خطيرة حدثت له في السجن في عهد عبدالناصر عندما كانت السجون والمعتقلات لا تفرق بين دبلوماسي يتمتع بحصانة.. أو مبدع.. أو “قتال قتلة”!

على صفحات هذا الكتاب نعلم أن أندريه ميكيل الذي وصل إلى القاهرة مساء الخميس 14 سبتمبر/أيلول 1961 بصحبة زوجته وطفله ليستأنف العلاقات الثقافية بين فرنسا ومصر بعد انقطاعها منذ معركة السويس في خريف 1956 ويعمل مستشارًا ثقافيًا لبلاده في مصر، اتهم بتدبير محاولة انقلاب ضد نظام الحكم واغتيال عبدالناصر، فتم اعتقاله وإيداعه زنزانة بمفرده نحو خمسة أشهر، تعرض خلالها للإهانة والإيذاء النفسي، ولم تنجح مساعي الحكومة الفرنسية في إطلاق سراحه إلا عندما أوشكت حرب الجزائر على الانتهاء، فأمر عبدالناصر بإخلاء سبيله وترحيله إلى فرنسا.

ولحسن الحظ فإن كل ما تعرض له هذا المستعرب الكبير الذي يشغل كرسي أستاذ الأدب العربي الكلاسيكي بالكوليج دى فرانس، أثناء اعتقاله لم يجعله يكفر بمشروعه الثقافي الذي يتمثل في تدريس الأدب العربي للفرنسيين وترجمة مختارات منه، ونشرها والتعريف بها في الغرب، فضلًا عن الأخذ بيد الكثير من المبدعين والأكاديميين العرب الذين قصدوا فرنسا للتعلم.

في تقديمها لترجمتها للطبعة العربية تقول الدكتورة رشا صالح: “وجبة المساء” هو العنوان البسيط المتواضع الذي اختاره أندريه ميكيل، أبرز وجه في عالم الاستشراق الفرنسي المعاصر، ليطلقه على يومياته عن الفترة التي قضاها في السجن بالقاهرة، بين ثكنات احتجاز مباحث أمن الدولة، ومقر سجن الاستئناف المجاور لمديرية أمن القاهرة بميدان باب الخلق على مدى مائة وخمسة وثلاثين يومًا، امتدت بين خريف 1961، وربيع 1962، مرورًا بالاستجوابات الشاقة، وما تتطلبه في عرف بعض القائمين عليها من ممارسة ألوان الضغط والمعاملة القاسية، وصولًا إلى الإقامة في سجن، يخصص جانب منه للمحكوم عليهم بالإعدام، أصحاب الملابس الحمراء، وجانب آخر للمسجونين العابرين، أصحاب الملابس الخضراء من مثيري الشغب والسارقين وأضرابهم، وجانب ثالث للجواسيس الذين أدرج بينهم ميكيل ورفاقه الدبلوماسيين الفرنسيين المتمتعين، نظريًا، بالحصانة الدبلوماسية، والذين نسبت لهم تهم غامضة عديدة.

إن رصد وقائع هذه الأيام المريرة أتيح له قلم مبدع وعالم وإنسان، على درجة عالية من ثراء التكوين، وتعقد العناصر. فهو في لحظة مروره بهذه الأحداث، شاب في الثانية والثلاثين من عمره، يجمع بين صفات المبدع في الأدب الفرنسي، كاتبًا وقاصًا وشاعرًا، وصفة المثقف النهم، عارفًا باللغات التي تشكل لديه نوافذ مشرعة على الحضارات الإنسانية التي يتطلع إلي تمثل أكبر قدر من تجلياتها، عبر اللغات: الألمانية والإنجليزية والإسبانية والروسية وامتداداتها في اللغات القديمة، وأخيرًا العربية الفصحى التي عشقها، وقرر أن يرصد مشواره العلمي الذي كان قد بدأه في أرقى المؤسسات الأكاديمية في فرنسا لاستجلاء مظاهرها الأدبية والإنسانية، وتقديم صورة مشرفة عنها لأبناء حضارته ولغته. وهو طريق كان قد بدأه قبل هذه التجربة المريرة، واستمر- وياللعجب – في ارتياده بعدها، بروح إنسانية، شديدة السمو والتجرد، عبر مشواره الأكاديمي المتميز الذي أصبح من خلاله، شيخ المستعربين في المدرسة الفرنسية دون منازع منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين.

من خلال هذا التشابك في العناصر الإنسانية والمكونات المعرفية والثقافية، ظهر هذا العمل شديد التميز في الفرنسية، اللغة التي احتلت مكان الريادة في تسجيل السيرة الذاتية واليوميات.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى