ضوء يخترق نافذة في جدار الحزن

( الجسرة )

* د.علي حسون لعيبي

لم اعرفه سابقا. ذلك الهدوء الذي يملا مقهى حنش في شارع المتنبي. رغم الصخب الهادر من تمتمات الأدباء هناك, وحين يبدأ التحاور عن هموم الوطن والانسان والثقافة هناك يسعى اليك الحب والسلام رغم تنوع الاختلاف الفكري والعقائدي، فهم يتوحدون في النهاية على أن الانسان هو القيمة العليا. هكذا هو ديدن العراقيين منذ فجر التاريخ.

جليل البيضاني – احفظوا هذا الاسم – ضوء يخترق نوافذ الحزن المستشري في بلد كان مثال الامان. وجه إنساني حمل مشعل الكلمة بحب وقرر أن يمنح نوافذنا بعض الضياء في ديوانه “نافذة في جدار الحزن”.

يبدأ بالرثاء لوطن قدم للإنسانية ارقى الحضارات، لكن كانت هدية الانسانية له مزيدا من قوافل البكاء:

تاهت خُطاك

حين اكتشفت بأن اوهاما

تقود مسيرها

وصدى رؤاك

حين انتعلت البيد

لا شسع.. ولا نعل هناك

ولا نبع…

ولا نخل..

ولا غيث سماك

حين اكتشفت بأن اوتارا

يقود نشيجها حزن

وتسكن في قراك

حين أرتحلت

هكذا يرى بقايا وطن، حين دخل عليه الغرباء، فسرقوا بسمة اطفاله، وقوت اهله، وهو اصل التكوين الانساني منذ أن بدأ الانسان يخط أول حرف في التعامل البشري، وعلم الانسانية قوانين التعايش وطريق التطور عبر مسلات من اشور وبايبل وسومر وا.. ولم تنته .. فما زالت ترفد العلم والادب بدماء جديدة أصالة ونقاء وضوابط يجعلك حتما تسير بالاتجاه الصحيح رغم العوائق والمطبات المصطنعة والطبيعية ويعبر عنها شاعرنا البيضاني في نصه “رماح مجاشع”:

بلادك تُسبى حين القت حبالها ** على غارب الايام والسيف خانع

وعشقك طيف غيبته دوارس ** تناديه لا يصغي وما أنت راجع

ويسترسل حتى يقول:

فصبرا اذا ما الامر جلت خطوبه ** وصبرا اذا ما خيبتك المواقع

هو الدهر ان إيامه البيض أقبلت ** فأنت على مرج من الخير راتع

نعم هو يعتقد أن من تاريحه يمتد الى اكثر من سبعة الاف عاما، لا بد أن هناك سرا في هذا التواصل الحياتي، وذلك الامتداد الفكري الذي سطر أروع ملاحم الحب والبطولة والحضارة.

ومن أجمل ما حملت لنا إضاءات الشاعر العراقي جليل البيضاني .. تلك القصاصات الصغيرة التي يخاطب فيها أناسا أقرب الاحبة اليه. والذ الاشياء لنفسه النقية.. أولهم أبوه، فيخاطبه في حوار داخلي:

أنا اعلم أنك راض عني

لكنك حين زرعت الخوف

على كتفي..

يتملكني خوف

حين أحاول أن المس قبرك

لاحظوا الاحترام المهيب في العلاقة بينه وبين الاب. لمسات انسانية عريقة تجدها في قرانا ومدننا التي تعج بالحب ورائحة الاصالة.

ثم يوجه خطابه الى امه:

حين علمت بأنك

اصبحت طعاما للنار

غادرت مفازات جهنم

وبدأت اصلي

هنا دعوات روحية، ومناجاة للرب أن تمنح روح امه السلام. فمن خلال طهرها.. غادرت نار جهنم الى مستحقيها.

ثم يوجه نداءه لبغداد بعتب، تلك مدينة الحلم التي استباحها الغزاة:

بغداد..

سرقوا أقراط محبتها

وافتض جنود المارنز بكارتها

وبديلا عن أوراق التوت

أعتمرت قبعة

لتغطي عورتها

أراد الشاعر أن يعبر عن رفضه واحتاجه لهذا الغزو، مهما كانت مبرراته. فهو يرى أن الاحتلال ينال من عفتها، والشرف هنا أن تعود بغداد لاهلها. هم من يجملوها بأحلى زينة العرائس.. فهي عروس العرب وسر قوتهم.

جليل البيضاني الانسان والاديب فعل إنساني متجدد يحتاج من المعنيين الغور في تفاصيله حتى تعطيه حقه.. في زمن للاسف تسيد فيه على منابر الثقافة بعض الجهلاء.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى