جان ميشال جار.. بعلبك والمغامرة السمعية

( الجسرة )

*محمد شرف

نعرف جان ـ ميشال جار منذ زمن بعيد يعود إلى سبعينيات القرن المنصرم، بمعنى معرفة ما يقوم به ويبتكره. تسنّت لنا فرصة مشاهدته «من بعيد» في باريس، ذات يوم؛ لكن الوضع كان مختلفاً اختلافا جذرياً، حينها، عمّا كان عليه ليل السبت في بعلبك، ضمن برنامج لجنة المهرجانات، المخصص للاحتفاء بمناسبة 60 عاماً على انطلاقتها، في العام 1956. خلال الستين عاماً هذه مرّت على الهياكل، ودوّت بين أعمدتها، موسيقى شديدة التنوّع لفرق من بلدان عديدة، تراوحت بين الأسلوب الكلاسيكي والرومانسي، وصولاً إلى موسيقى الروك وسواها، ولكن يبدو أنها المرة الأولى التي تستقبل فيها بعلبك نمطاً من الموسيقى الإلكترونية، مع ما تحمله من خصائص ومميزات واختلاف في الأداء، وطبيعة جمهور المستمعين كذلك.
جان ميشال جار ليس جديداً «على الكار». بزغ نجمه في منتصف سبعينيات القرن الماضي، إثر ظهور عمله المسمّى «أوكسجين»، ما وضعه، حينها، على سلم الشهرة في العالم أجمع، وتكرّست هذه الشهرة لاحقاً من خلال أعمال كـ «إكينوكس» (1878) و «الحقول المغناطيسية (1981) و «زولوك» (1984)، واستتبع ذلك مقطوعات كثيرة تميّزت بمدّتها الزمنية التي لا تقل عن 20 دقيقة. نوع موسيقي خاص تشبه مفاعيله الخوض في مغامرة سمعية من شأنها أن تودي بالمستمع إلى رحلة «تريب»، نحو عالم يقلّ فيه الشعور بالمحيط، على وقع النوتات «الكهربائية» الصادرة عن الآلات الإلكترونية، التي استثمرت آخر ما توّصلت إليه التكنولوجيا في هذا المجال.
هذا الأمر حدث ليلة السبت في بعلبك. قبل بدء «الكونسرت» كان يمكن رؤية أعمدة معدنية على شكل شبكات عمودية، وبينها آلات موسيقية وتتصدرها منصّة. الناظر إلى ما ذكرناه في العتم لن يكون في إمكانه أن يميّز شيئاً، فالمشهد أشبه بمصنع أو بديكور لفيلم علمي خيالي على شاكلة «ستار وورز». لكن المشهد يتوضّح شيئاً فشيئاً مع بدء الحفل، إذ إن ما كنّا نخاله شبكات معدنية، بعيدة عن بعضها البعض وذات أبعاد متباينة، ليست سوى شاشة مزوّدة بتقنيات ضوئية متطوّرة، يبدأ فعلها مع انطلاقة النوتة الموسيقية الأولى. يبدأ «الكونسرت» في شكل متواضع مقصود، وبدرجة صوت «محتملة»، لكن العزف يتطوّر تدريجاً، ويزداد تنوّع النوتات الإلكترونية، كما يزداد معها مفعول التأثير الضوئي، فتظهر أضواء جديدة لا تخطر في البال مترافقة مع موجات دخان، وتتحول سماء المدرّجات، حيث الجمهور، إلى سماء أخرى كشبكة ضوئية متحرّكة في كل الإتجاهات وبألوان غير متوّقعة.
في هذا الحين يعلو صوت الموسيقى لدرجة لا تقوى على تحمّلها الآذان الحسّاسة أو المريضة. يُقال إن صوت الحفل كان مسموعاً في بعلبك كلّها، وظنّ من لا دراية لهم بالمهرجان أن عرساً غريباً يُقام في مكان ما، تُعزف فيه موسيقى لـ «مجانين» (سمعنا التعليق من أحد سكان المدينة في اليوم التالي). جمهور الحفل كان في معظمه من الشباب، قام الكثيرون عن مقاعدهم وتمايلوا مع الصخب الموسيقي، ولو أُتيحت لهم الفرصة لرقصوا في أرجاء الهياكل. في هذا الوقت كنا نرى جان ميشال جار، إبن الـ68 عاماً (هو من مواليد 1948) على الشاشة المعدنية المختلفة الوظائف والإمكانيات، وهو ينقل أصابعه على الآلات الموجودة على المنصّة الواقعة في وسط مقدّمة المسرح، ويقفز أحياناً في الهواء، ويشير إلى الجمهور كي يزيد من حماسته، إلى أن ينتهي الحفل، فيأبى الحاضرون مغادرة أماكنهم قبل عودة جار ليعزف مقطوعة أخرى، ولنخرج بعدها إلى العالم الحقيقي وفي آذاننا طنين جميل لم يغادرها قبل فترة من الوقت.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى