سيّد الضوضاء المشعة يثير جدلاً بين الزمان والمكان في ليل بعلبك

( الجسرة )

*جاد الحاج

جان ميشال جار هو الموسيقي الغربي الأول الذي يتلقى دعوة رسمية من الصين لتقديم خمس حفلات في بيجينغ وشنغهاي عام 1981. وبعد ربع قرن عاد إلى بيجينغ، حيث تعرّف إليه بليون مشاهد عبر انفجارات صوتية ولونية وكوريغرافيا حركية لا سابق لها على شاشاتهم. أحيا تلك التظاهرة 260 موسيقياً بينهم الأوركسترا الفيلهارمونية، والأوركسترا الوطنية، وكورس الأوبرا الصينية، معاً نفذوا رؤية المؤلف الفرنسي بحذافيرها.
قد لا يكون ذلك نموذجاً يعكس حجم جار بكامله على الصعيد العالمي، إلا أن الرجل يقوم بخطوات ثورية أحياناً تجزم الجانب الإبداعي الفذ في شخصيته، ففي عام 1983 مثلاً، أصدر نسخة واحدة من عمل سماه «موسيقى للسوبرماركت» وباعها في مزاد علني احتجاجاً على سياسات التسويق والترويج ذات المنحى الاستهلاكي الرخيص، وعلّق على ذلك بقوله: «يريدون بيع الموسيقى كأنها معجون أسنان وليست منجزاً فنياً».
وفي سيرة «سيّد الضوضاء المشعة» أيضاً، أنه رئيس الاتحاد الدولي لمنظمات المؤلفين والملحنين في العالم. تأثر بنظرية بيار شيفر الداعية إلى خلق «موسيقى صافية» تنبع من هضمٍ واستيعاب كاملين للإرث الموسيقي العالمي، وتنحو إلى إبداع عصر موسيقي جديد يعكس التطور العلمي والتناقضات الكونية في آن واحد. من هنا، ولد العمل الأول لجار «أوكسيجين» عام 1976. غلاف الأسطوانة جمجمة مقلوبة تهترئ وتتوهج، فينبعث منها ضوء أحمر… هل بدأ العقل البشري يشوي المدنيات السالفة على نار التكنولوجيا الحديثة؟ ذلك واحد من مئات الأسئلة التي طرحها جار عبر موسيقى صارخة شبّهها بعض النقاد بقصيدة «عويل» لآلن غينسبيرغ.
عام 1999، أصابت عدوى جان ميشال جار الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك فأراد وداع الألفية الثانية بمشهد يناسب روعة الأهرام وعظمة مصر في التاريخ. «الشمس باثني عشر حلماً» عنوان التظاهرة التي حضّرها جار للمناسبة وضم برنامجها «قبيلة» من الفنانين والحرفيين والتقنيين لتغطية ليلة 31 كانون الأول (ديسمبر) من غياب الشمس حتى شروقها على الألفية الثالثة، لذا تضمن العرض زبدة أعمال جار، خصوصاً المراحل الأربع من «أوكسيجين»، إضافة إلى تكريم موسع لأم كلثوم وسيّد درويش، وتوزيع أوركسترالي لأجمل أغاني الفولكلور المصري بمشاركة الأوركسترا السمفونية لأوبرا القاهرة، وخمس جوقات غنائية مختارة. إلا أن حسابات الحقل لم توافق غلة البيدر، فقبل غياب الشمس، تدفقت أمواج ضباب كثيفة على الجيزة حاجبة أضواء الكواشف والسواطع الضخمة، محبطة آمال 120 ألف مشاهد جاؤوا لوداع القرن العشرين على سفوح الأهرام. وكان هذا أول تحديات الطبيعة لمشاريع جار!
في البداية جاء إلى ساحة كونكورد المطلة مباشرة على برج إيفل أكثر من مليون شخص لمشاهدة «أوكسيجين» عام 1976، علماً أن النقاد ترقبوا له الفشل الذريع بسبب غياب نجوم الغناء والموسيقى عن مشاهده. لكن، وبعد بيع 15 مليون نسخة حول العالم من «أوكسيجين»، بدا جان ميشال فرداً لا نظير له بين أترابه وليس هناك من يشبهه في التاريخ، إلا من حيث النظرية القائلة أن الموسيقى الإلكترونية ليست موجة عابرة، بل سيكتب لها الاستمرار بمقدار ما استمرت الموسيقى الكلاسيكية.
وقد وضع الموسيقي الإيطالي الطليعي لويجي روسولو دراسة مستفيضة عن الموضوع في عنوان «فن الأصوات» قبيل ظهور تجارب شيفر. لكن تأكيد أسبقية جار ينعكس أولاً على أعمال مجايليه الذين شرّعوا المشهد الاحتفالي الموسيقي – الغنائي على إفرازات المخيلة في صورة صاعقة: «كرافتووركس» أرسلت روبوتات إلى المسرح بدل الموسيقيين… أنجيليس أغرق نفسه في استوديو مطلي بالأسود أطلق عليه اسم «ديمو» تيمناً بقبطان رحلة جول فيرن إلى أعماق المحيط… «تانجيرين دريم» عبروا الخشبة شبه عراة وتركوا آلاتهم الموسيقية تعزف وحدها!
أرقام قياسية
ثلاث مرات حقق جان ميشال جار أسبقيته في تسجيل أكبر عدد من المشاهدين لأعماله في الهواء الطلق وفق مدونات غينيس. ففي العودة إلى باريس عام 1979، حضر مليونان ونصف المليون إلى ساحة «الدفاع» (لا ديفانس)، وإلى موسكو جاء أكثر من ثلاثة ملايين عام 1997، وفي الإطلالة الثالثة على باريس جاءه ثلاثة ملايين ونصف المليون… لكن جار بدأ يشعر بقيام غشاوة بينه وبين الجمهور بسبب تكاثف الحشود واستحالة التواصل مع أعدادها الغفيرة، فقرر العودة إلى التركيز على الموسيقى بدلاً من ترجيح كفة المشهدية الضخمة.
هذا ما حصل ليلة أول من أمس على سفح معبد باخوس في بعلبك. هيبة العمارة الدهرية التي أطّرت انبلاجات الأشعة والأمواج الضوئية الكاسحة شكلت بحد ذاتها جدلاً ذهنياً على هامشي الزمان والمكان. أين كنا وأين أصبحنا وإلى أين من هنا؟ أسئلة متوقعة تقاطرت في سطوة مبرمة تدمج الصوت والضوء، مثلما يندمجان في البرهة الخاطفة للبرق والرعد، ولكنها برهة تستمر ليس أقل من عشر دقائق كل مرة. هل تستطيع ذاكرتنا أن تتخيّل برق السماء ورعدها متواصلين كأنهما مقطوعة موسيقية؟ وكيف لا يكون تجسيد تلك الرؤية معجزة يجدر بالتاريخ أن يتوقف عندها ويسجلها؟ لعل أهم أثر يتركه جان ميشال جار على الجمهور يكمن في إيقاظه النوائم في اللاوعي البشري. وتلك اليقظة، عبر مطارق الإيقاع الجبارة، تجرفنا كتيّار لا مجال لمقاومته إلى بدايات الموسيقى، أي إلى الإيقاع، إلى الطبول والصرخات الزاعقة تعكس دهشة البشر وهلعهم أمام الأرض البكر والفضاء المذهل.
عملياً يتعذر وصف المشهد بالكلمات والمصطلحات المألوفة، ليس لأنه مشهد غير مألوف فحسب، بل لأن وقعه يتجاوز ردود الفعل المدجنة بالتكرار والعادة، يتخطاها إلى الانخطاف والأخذ والصعقة، إذ يحدث للعقل مثلما يحدث للجسم حين ينتقل من أقصى الحرارة إلى البرودة الدنيا. سديم بلا غيم ولا رياح يحتل كيانك في تلك النقلة. سديم يمحو مفاعيل الذاكرة. يلغي تضاريس المكان. ويعلق الوقت خلف باب الغفلة عن الآن وهنا، فلا أنت في ليل كالليل، ولا في مكان أكيد.
جان ميشال جار، رأيناه على أدراج بعلبك يوثق عروة الزمن الأول بزر الموسيقى الإلكترونية، أم عبرت بنا رؤيا وصدقناها؟!

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى