مهرجان أفينيون يحاكي مواجع لبنان وسورية

( الجسرة )

*جورجين أيوب

في الدورة السبعين للمهرجان، لم يُسمع قطّ جرس اللغة العربية يدوي على الخشبات وفي المؤتمرات الصحافية كما دوى هذه السنة. لقد شهدنا أعمالاً عدّة آتية من سورية ولبنان، وأخرى من إيران. أعمال لفنّانين شبّان يأتون للمرّة الأولى إلى أفينيون، في إطار تركيز المهرجان المعلن والفعلي على منطقة الشرق الأوسط. ونخصّ هنا فنّانَيْن شاهدنا أعمالهما.
سورية بين حياة وموت
في القسم الأول من المهرجان، قدّم المخرج السوري عمر أبو سعدة مسرحيّة «بينما كنت أنتظر» للكاتب المسرحي محمّد العطّار. والمسرحية تروي، في إيقاع سريع، معتمدة في ذلك على طرائق المسرح الوثائقي، ذاك الجيل السوري الضائع، جيل أبناء الثلاثين الذي لحقه الأذى وعاش الموت والاعتقال وضياع المستقبل من جرّاء الحرب المحتدمة نيرانها في سورية. تَيْم في غيبوبة، بعد حادث غامض تعرّض له على حاجز. وأمه تصلّي وتبكي وتنوح قرب سريره وتغضب على أخته التي «هربت» إلى لبنان «لتعيش حياتها». أما الأب فتوفي مرّتين حين مات في أحضان امرأة لتكتشف العائلة أنه متزوج سرّاً من امرأة أخرى. والمسرحية تحاكي الواقع الاجتماعي، وفي هذا السياق يقول المخرج الذي كان لنا لقاء معه: «مشكلتنا في سورية ليست مع الديكتاتورية فحسب، إنما هي مع السلطات الاجتماعية ومختلف السلطات التي تتزاحم قوّة وشراسة، وغالباً ما تتخذ الضغوط الاجتماعية الطابع الديني». فالعلاقة بين الأم وابنتها في المسرحية تتسم بالعنف وعدم التواصل. وأتى عنوان المسرحية التي غلب عليها الطابع الإخباري ليحاكي، دون قصدٍ، عنوان مسرحيّة بيكيت «في انتظار غودو». فـ « نحن في سورية في حالة انتظار، بين حياة وموت».
وإذ أجمع النقّاد على إبراز الاستعارة، غيبوبة سورية من خلال غيبوبة تيم، يؤكد المخرج كذلك تلك اللحظة الاستثنائية التي شكّلتها بداية الثورة في رفع النير الاجتماعي. وحركة نزع الحجاب، التي أقدمت عليها الابنة الشابّة في المسرحيّة، «أقدمت عليها فتيات كثيرات في بداية الثورة عام ٢٠١١ وهو أمر ذو أهميّة بالغة اجتماعيّاً ومدلولاته كبيرة بالنسبة إلى الثورة»، وفق ما يقول المخرج.
وفي ما يخصّ اللغة، نجد أنّ خيار المسرحيّة بلا تردّد هو العاميّة. وهو يقول هنا: «بالنسبة إلى الممثلين، يمكن أن يكون اعتماد الفصحى بمثابة ترجمة من لغة ثانية. فالفصحى لغة لا تشبهنا. وعلينا أن نعمل على إيجاد لغة مسرحيّة جديدة. أمّا العاميّة، فإنّها تعطي إمكانات لا تُحصى لاستكشاف الشاعرية الموجودة في حياتنا اليومية. ولا تزال غير مستكشفة جيداً».
وعن نقاط التقاطع بين مسرحه ومسرح ونّوس، فيراها في ذلك الصراع المشترك ضدّ السلطات السياسية والدينية، وفي السعي المشترك إلى توسيع الجمهور. أما التغاير فيراه في تأثر ونّوس بالمسرحي الألماني بريشت بينما اعتمد مسرح أبو سعدة طرائق المسرح الوثائقي، إضافة إلى اعتماد العامية فيما كان ونّوس يعتمد اللغة الفصحى في مسرحه.
واللافت أنّ المخرج الذي كان له تطلّع دولي منذ بداية عمله، والذي جاب الأرياف لتوسيع رقعة جمهور المسرح، قرّر منذ عام ٢٠١١، ألا يقدّم أعماله في سورية، بل راح يقدّمها في البلدان العربية وفي الغرب، ممّا يطرح سؤالاً عن هوية المخاطب الذي يتوجّه له العمل المسرحي: فهل يتوجّه إلى الجمهور السوري أم أنّه يتوجّه إلى جمهور عربي وغربي بغرض إعلامه عن الوضع السوري، علماً أنّ الغرب قد يتحمّل مسؤولية في ما يحدث في سورية؟
مناحات علي شحرور
لا شكّ في أنّ الكوريغراف اللبناني الشاب علي شحرور كان واحداً من نجوم مهرجان أفنينيون في هذه الدورة، وهو الذي قدّم عملين هما: «فاطْمِة» و«موت ليلى»، عرضهما سابقاً في بيروت. يستوحي العملان في المهرجان فكرتهما من الموروث الثقافي الآتي من المَرويات العربية الكبرى، وتحديداً «المناحات البكائية وطقوس الموت الشيعية وشعائر لطم الصدور والأجساد»، على ما يقول شحرور.
وفي مسيرته لبناء لغة رقص عربي معاصر، وبمعاونة مجموعة «زقاق» التي ساهمت في إنتاج العملين، استند شحرور إلى جمالية المناحات البكائية الشيعية في عمله الأول «فاطْمِة»، وتعمّد اختيار فنّانتين بجسدين لا يحترفان الرقص المعاصر، وهما: رانية رافعي ويمنى مروان. والمعلوم أنّ فاطِمَة الزهراء بنت الرسول هي شخصيّة دينية أساسية في التراث الشيعي. واللافت أنّ العمل الفني يمزج عمداً شخصيّتين تاريخيتين، يحمل حضورهما بعداً أسطورياً أكيداً، إن لم نقل بعداً مقدّساً أكيداً، وهما فاطمة الزهراء وفاطمة أخرى حديثة نعرفها باسمها الفنّي، أم كلثوم، مازجاً بذلك عمداً بين الندب والطرب، بين الدين والدنيا، بين الموت والحياة، مازجاً اللطم على الصدور والأفخاذ بدوران الدراويش، أي متعمداً الاستناد إلى مراجع مختلفة في التراث، تنتمي إلى مذاهب مختلفة، وإن كانت جميعها في نظر الكوريغراف، إسلامية.
وربما تعود شعائر الموت هذه إلى ما قبل الإسلام حيث إننا نعلم أنّ أوائل القصائد الشعرية التي وصلتنا هي المرثيّات. والمعلوم أنّ مُؤرخي الشعر العربي يعتقدون أن القصيدة العربية بدأت بمناحات النائحات، وذلك قبل قرون من الإسلام. وفاطمة الزهراء، من منظار تاريخ الأدب المعروف، تبدو أخت الخنساء التي بكت أخاها وأخت ليلى الأخيليّة التي بكت توبة، الشاعر الصعلوك. والمعروف أنّ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون كان يقارن بين فاطمة الزهراء ومريم العذراء في مناحتها على ابنها عند المسيحيين يوم الصلب. وليس المقصود بهذه الإشارات سوى التركيز على أهمية الصوت النسائي في طقوس الموت والرثاء عند العرب، على اختلاف مذاهبهم الدينية، وبالتالي أهميّة التعرّض لها من الناحية الجمالية، لكونها جامعة للمذاهب والأديان. ومعلوم أن تراث الندّابات كان لا يزال حيّاً في جبل لبنان حتى الخمسينات، أي قبل الهجرة إلى المدينة وضياع حياة الأرياف.
من جهة أخرى، يؤكد علي شحرور البعد السياسي لخياره، خصوصاً أنّ علاقة الفرد بالجماعة في طقوس البكاء على الميت تغيرت، ويبدو أنّ لهذا الخيار بعداً اقتصادياً وثقافياً واضحاً. فالمناحة في عصر الشهادة الذي نعيشه غدت تعظيماً للشهداء، لا بكاء على الميت الفرد، الفريد في حياته ومنيّته، في مسيرته المتعثرة في هذه الحياة الدنيا. ويشير شحرور إلى أهمية هذه الشعائر كمتنفّسٍ لأجساد النساء المكبّلة في ستائرها وحشمتها والتي يباح لها القول والتعبير في طقوس الموت.
يتميّز «فاطمة» بقوة وقدرة كبيرتين، إن من ناحية السينوغرافيا والإخراج أو حتى الأداء وفي الحركة الراقصة في تكرارها الشعائري حتى الإعياء الاضمحلال)، وهي حركة يبثّها في الفضاء الثوب الأسود العديد الطيّات الذي ترتديه الراقصة. وأيضاً في الصوت الباكي الصارخ المتفجّع في إنشاده أبيات المناحة المعروفة: «إذا اشتد شوقي زرتُ قبركَ باكياً/ أنوح وأشكو لا أراك مجاوبي/…». أو في جدليّة الوقوف وجهاً لوجه أمام الجمهور أو إدارة الظهر له. وقدرة العمل هي قدرة على إثارة رهبة الموت وهول الأسى عند الجمهور، في غربٍ يُغيِّب الموت وبؤس الجسد، ممّا يكرّس علي شحرور كورغرافاً موهوباً تُنتظر أعماله المقبلة. وقد أتت كلمة فابيين باسكو في تليراما لتلخصّ الشعور العام: «علي شحرور كوريغراف غير معروف إلّا أنّه لن يبقى غير معروف وقتاً طويلاً.»
قراءات مثمرة
وضمن البرنامج الشرق أوسطي هذا، قدّم الفنّان أموس غيتاي خلال ليلة واحدة في ساحة الشرف في قصر البابوات عملاً يروي اغتيال رابين انطلاقاً من مذكّرات زوجته لايا، ويسبر تمزّقات المجتمع الإسرائيلي بعده. ويمزج العرض صور الفيديو الوثائقية بالسرد الحميم القلق. وقد اشتركت في القراءة الممثلة هيام عبّاس إلى جانب سارة أدلير.
وتضمن المهرجان أيضاً قراءتين لافتتين في حديقة دار جان فيلار: الأولى قدّمتها فرقة الكوميديا الفرنسية خلال ثلاثة أيّام من الحادي عشر إلى الثالث عشر من تمّوز، عنوانها «الشرق في القسمة»، تروي سفر كليلة ودمنة قبل ترجمته من الهندية الى العربية ومن ثم سفر النص العربي الذي ترجمه ابن المقفّع حتى وصوله بين يدي لا فونتان. ويتولّى ممثلو الفرقة قراءة مقاطع من النص العربي في ترجمته الفرنسية وقراءة قصائد لافونتين المقابلة لها. والمبادرة جميلة إذ تذكّر أنّ التبادل الثقافي لم يكن باتجاه واحد بل كان أيضاً من الشرق إلى الغرب.
أما القراءة الثانية فهي لمسرحيّة حلا مغنّي «اصمُت واحفُر»، التي حازت جائزة راديو فرانس الدولية للمسرح (٢٠١٥) خلال مهرجان الفرنكوفونية في ليموزين. وكانت اللبنانية حلا مغنّي قد بدأت كتابتها في ٢٠٠٦، عند الحرب اللبنانية – الاسرائيلية التي أعادت حضور الحروب المتعددة التي عاشها لبنان إلى ذهن الكاتبة. وهي تطرح مسألة الذاكرة ودورها في بناء الهوية، عبر قصة عائلة شبه مجنونة تحفر في حفرةٍ يبحث فيها كل فرد منها عمّا يعنيه، مهما بدا الذي يعنيه تافهاً في عين الآخر. وتتخذ النبرة بين جِدٍّ وهَزْل، أسلوب الفكاهة لتتحدّث عن مآسي تكرار المصائب نفسها. وعلّقت الكاتبة على عنوان نصّها قائلةً: «يبدو لي الآن العنوان كأنّه حثٌّ على ترك التراث الشفهي، تراث الكلام الجارف الذي لا يتوقف أبداً والذي يميّز العالم العربي، لمصلحة الكتابة والتنقيب في غياهب حفر الماضي. فلنذهب إلى الحفر، فلنتوغّل في الأعماق». أمّا عن التحوّل الذي أنشأته حيازتها الجائزة فهي تقول: « لمّا أُعلمت الخبر، وجدتني مرعوبة ومسرورة معاً. كنت قد عرضته على دور نشر عدة ولكن دون جدوى. فحين علمت خبر الجائزة شعرت أنّ النص وجد جمهوره وأنّه من حقّي أن أكتب. هذا ما أرعبني لأنه يجب أن أتابع الكتابة». وقد أتت القراءة حسّاسة، تبرز بنبرتها الصادقة تلوّنات النص.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى