قراقوش في الذاكرة الشعبية المصرية

( الجسرة )

*عمرو عبدالعزيز منير

تنشغل الدراسات التاريخية على اتساعها بالبحث عن الحقيقة، فهي في الوقت الذي تحاول إعادة بناء صورة للماضي، تحرص على تدعيم تلك الصورة بدلائل قوية على حقيقتها، واتصالها بالواقع، وتأتي الوثائق من الدلائل الدامغة التي يعتمد عليها المؤرخ في إثبات ما يقصده من حقيقة. لذا فإن كتاب «الفاشوش في أحكام وحكايات قراقوش»، الذي قمت بتحقيقه أخيراً، معتمداً على مخطوطاته المعروفة في العالم ونشرته دار «عين» القاهرية؛ يُعد وثيقة تاريخية مهمة. صحيح أنها لم تخرج من بلاط الحكام وأروقة الدولة، ولا شملتها صفة الرسمية ومهرت بخاتم السلطة؛ إلا أنها تعد وثيقة اثنوغرافية على درجة عالية من الأهمية التاريخية. تلك الأهمية تنبع من حافظها، وهم الناس من الطبقات الشعبية الذين وإن غيروا فيها، فأضافوا إليها أو حذفوا منها، وهو ما يعد عامل صدق ويعبر عن الحقيقة، حقيقة واقعهم المتقلب، لذا فإن الباحث المتجرد لا يمكنه أن يتجاهلها أو يتجاهلهم – أي الناس- عند بحثه عن الحقيقة، بل سيبحث فيها ويفتش بها عن مواضع آمالهم وآلامهم عساه يدركها.
وكتاب الفاشوش يرجع أول ظهور له الى النصف الأول من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، على عهد صلاح الدين الأيوبي الجالس على عرش السلطنة في مصر والشام. أما الرجل الذي يحكي عنه الكتاب فهو الأتابك قراقوش بن عبدالله الأسدي، أبو سعيد، بهاء الدين، وهو أمير رومي الأصل؛ نشأ في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وناب عنه في الديار المصرية، وهو من الشخصيات التي كان أثرها أكبر من تأثيرها، وكذبتها أقوى من حقيقتها ووهمها أوسع من طغيان واقعها، فساهم كل ذلك في تحصينها من الإهمال والسقوط من الذاكرة لأحقابٍ عدة. ولهذا عاش الفاشوش وقراقوش في المخيال الشعبي عصوراً – ولا نبالغ إذا قلنا إلى الآن- إذ يظهر أن الرواج الذي لاقته هذه الحكايات على مر العصور يحمل حماسة اجتماعية أكثر منها حماسة درامية، فحبكة الحكايات كلها على المنوال نفسه؛ إذ نحن أمام حاكم/ قاضٍ تُعرض عليه قضايا من أشخاص مختلفين، فيصدر حكمه عليهم، وعادة ما يدخل القاضي وحكمه، لإثارة قضايا كلية، كالحكم والسياسة، والسلطة والناس، والعدل والظلم، والشرع والعُرف، والحق والباطل، والمعقول واللامعقول، والنافع والضار، وذلك في شكل هزلي، يجمع بين النقد والسخرية.
واستمر هذا التداول والحماسة والشغف لحكايات قراقوش إلى عصر الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ما يؤكد أنها ليست مجرد حكايات تاريـــخية، بل معاصرة يستدعيها السيوطي من التاريخ بناء على رغبة الناس، ليعرض بالرمز قضايا وتجارب اجتماعيـــة وفــكرية حيَّة بمدلولها السيـــاسي، اذ يــتــخذ من الإسقاط التاريخي وسيلة لفضح الواقع وتعريته والسخرية منه والتعريض بالحاكم الظالم؛ فيبعث على تشفي القارئ وتبصيره بحقوقه في مواجهة المستبد، متبعاً المعارضة الخفية والنقد بالحيلة والمداراة والإشارة والتلميح والهجوم غير المباشر على حاشية الحاكم وجنوده.
بل يعمد السيوطي إلى تخدير وعي المتلقي، وإيهامه بأنه يقرأ معلومات موثَّقة، لا سبيل إلى الشك فيها، وبخاصة حينما يذكر أنه جمع في هذه الأوراق «ما رَقَّ ورَاقَ في ليلةٍ واحدةٍ، وحرَّرها في ساعاتٍ قليلةٍ، نقلاً عن المؤرخ النَّاصري محمد بن تَغْرِي بَرْدِي في كتاب النُّجُومِ الزاهرةِ في وُلاةِ القاهرة». فيجد المتلقي نفسه منبهراً بما يقرأ أو يسمع من جهة، ومذهولاً به من جهة ثانية، ويصبح بين أحد أمرين: إما التسليم بما قرأ، وإما السكوت على مضض. وبطبيعة الحال ثمة خيار ثالث، وهو عدم التسليم، والإصرار على سماع صيحات العامة وهم يحترقون من الظلم وعدم الإنصاف، فتترسخ لديهم ضرورة المطالبة بالعدل ورفض القهر والاستبداد. لكن لهذا الخيار ضريبة باهظة العناء، وهو ما نرجح به حقيقة نسبة السيوطي الحكايات لابن تغري بردي، أي الخوف من السلطة؛ وهذا حال الطبقة المثقفة في ذلك العصر، وهو ما أدى إلى عدم حدوث مواجهة عنيفة بينهم وبين النظام أو مراكز السلطة في العصرين الأيوبي والمملوكي على رغم المحاذير والمصادرات الأدبية والفنية والمادية.
لذا استطاع الفاشوش أن يسجل كل ما خطَر للمصريين من عناصر نقد حول الأوضاع المستجدة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، في شكل حكائي، حيث لجأ صاحب/ أصحاب الحكايات إلى بعض الآليات كالتناص، والتوظيف الرمزي، والإسقاط الحكائي على الأوضاع والأحداث السياسية والاجتماعية، بحيث ترتفع أحياناً إلى مستوى الرمز التاريخي والاجتماعي، لتمتزج دراما الواقع والذاكرة في اللغة الطبيعية للحكاية. فشكَّل لوحة إسقاطية غنية برموزها وتعابيرها التي تعكس مختلف أبعاد المجتمع الشعبي النفسية، بعيداً من إطار السلطة وخطابها الرسمي؛ لذا لا نستطيع أن ننظر إلى «الفاشوش» على أنه كتاب تسلية أو سخرية، أو كتاب تاريخي فقط، بل هو محصلة للإنسان الذي عاش عصراً مضطرباً – العصر الأيوبي والمملوكي – فعايشنا تجاربه وأحلامه وخيباته وآماله وآلامه. ولذا؛ فمن المهم للحكايات ولنا، الرجوع إلى المصدر الذي استمدَّت منه حياتها ألا وهي التغيرات الاجتماعية والسياسية التي سادت مصر بداية من العصر الأيوبي وطوال حقبة المماليك. وهو ما قد أكد الأمر الذي يؤكد أن حكايات الفاشوش بإسقاطاتها السياسية على السلطة كانت متابعة للمجتمع ومبلورة لتحولاته.
وقد وصم بعضهم الفاشوش بأنه ضرب من ضروب العبث والخرافة والخزعبلات التي تناسب عقول العامة وإدراكهم؛ ليعكسوا لنا بذلك مواقفهم الفردية وآراءهم الشخصية وانحيازاتهم الطبقية؛ متجاهلين الرؤية الشعبية لتاريخ قراقوش أو غيره من الولاة والحكام والتي هي في حقيقتها تفسير تاريخي جمعي، لمصلحة الطبقات الشعبية من العامة والمهمشين، في مواجهة الحقائق التاريخية المجردة التي تتسم بها دراسات المؤرخين الأفراد وكتاباتهم التي تستعلي بتاريخها الرسمي.
وبعبارة أخرى، فإن هذا النمط من «القراءة الشعبية للتاريخ» لا يسعى إلى كشف حقائق التاريخ التي وقعت في الماضي؛ «فالحكاية لا تهدف إلى ذكر حوادث التاريخ بقدر ما تهدف إلى التعبير عن رأي الشعب وآماله إزاء حوادث عصره». وهو ما يعني تفسير التاريخ لمصلحة المجتمع في «الحاضر» وفي «المستقبل»، وذلك حين يعرف تاريخه الثقافي الشعبي، وكيف كان ينظر إلى حاكمية الذين كانوا الأقسى بالمعايير كافة. وهكذا فإن هذا النوع من التاريخ يلبي الحاجات الاجتماعية/ الثقافية للجماعة من ناحية، كما يحقق بعض الصياغات النفسية/ التعويضية للحوادث التاريخية في شكل يجمع بين العمق والتلقائية التي تميَّز بها التاريخ الثقافي الشعبي.

المصدر: الحياة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى