افريقيا وأوهام الآخر في عيون البريطاني سيدني لا نجفورد هايند قراءة في كتاب «سقوط عرب الكونغو»

(الجسرة)

*محمد المهيري

قال سا (SA) إله الموت لابنته وزوجها (التنكانا): نعم، هو أنا الذي عاقبتكم جراء إساءتكم لي، ولن يتسنى لكما قط أن تفهما ما يقوله أولادكما. ولكني سأعطي البيض من أولادكم الفطنة والورقة والحبر كيما يدونوا أفكارهم بهما. وأعطي السود منهم المعزقة والفأس، كيما يطعموا أنفسهم وينتجوا كل ما يحتاجونه بأيديهم. (من أساطير الخلق والموت الأفريقية من كوني) Kono Story
من خلال نشره هذه الأسطورة في تقسيمها نستطيع معرفة كنه نظرة الرجل الأبيض لهذه القارة العجيبة، فهذا التقسيم يمهد لفكرة قبيحة، شعارها استعباد أبدي، بدءا بالإنسان، ونهاية بالأرض التي امتص خيراتها، ولايزال ذلك الواقع المظلم يخيم على تلك القارة الجميلة ولكن بدرجة أخف من القرنين التاسع عشر والقرن العشرين اللذين شهدا الاستكشافات، ومن ثم تبعه الاستعمار البغيض، والأدهى والأمر أن نجد المستعمر الذي عاث في البلاد يرى من عبثه الرحمة، والعيش الهانئ ؛ ذلك أنه أتى على قارة متوحشة تأكل بعضها بعضا، فما أن ظهر ذلك الملاك حتى نزلت على هذه الوحوش الرحمات! ونسي أو تناسى أنه خلّف من ورائه مئات الآلاف من القتلى والأرامل واليتامى، وجعل من البقية الباقية في خدمته وسخرته.
لا شك أن بعضا من الأفارقة سمحوا للآخر أن ينظر إليهم تلك النظرة المتعسفة؛ وعلة ذلك تفشي الجهل؛ ما أوجد كل العلل التي من شأنها أن تجعل هذه القارة نهبا للغزاة، يضاف إلى ذلك الحروب التي استعرت بين زعماء القبائل الأفريقية وهي التي أظهرت الصورة القبيحة للشعوب الزنجية، وما نتج عن تلك الحروب من استعباد للأسرى، وبيعهم كسلعة في الأسواق هم وأطفالهم، هذا إن نجوا من الموائد المنتشرة في حوض الكونغو لآكلي لحوم البشر.
في هذه القراءة سأستعرض بعضا من انطباعات الكاتب والطبيب البريطاني سيدني لانجفورد هايند، أو صاحب المذكرات المعنونة بـ»سقوط عرب الكونغو»، الذي ترجمه أحمد العبيدلي ضمن المشروع العربي الكبير مشروع (كلمة)، وهو كتاب يصف المعارك التي دارت بين البلجيك والعرب حول حوض الكونغو، كما أنه يتضمن الكثير من الانطباعات حول الإنسان الأفريقي، وما يتصف به الرجل الأسود في حوض الكونغو من الصفات التي تشرعن له ولدولته الاستيلاء على هذه البلاد، وامتلاك ثرواتها، واستعباد أهلها، وهو موضوع القراءة.
بالعودة إلى التاريخ قليلا فإن إعلان الملك البلجيكي ليوبولد الثاني في 1885 حوض الكونغو دولة حرة برئاسته وملكيته الشخصية؛ فإنه يشرعن لنفسه مكافحة كل معارض أراد الوقوف أمام أطماعه الاستعمارية، ومن الطبيعي لهذه الدولة الناشئة في الاستعمار أن تخلق كمثيلاتها الدول الاستعمارية المبررات التي تجيز لها نهب ثروات الأوطان، ومن بين تلك المبررات أن سكان حوض الكونغو كلهم من أكلة لحوم البشر، ولقد كرس الطبيب هايند هذه الحقيقة بما أتي من مهارة كتابية في كتابه «سقوط عرب الكونغو».

التوحش وأكل لحوم البشر

يقول المؤلف «وحتى الآن تمكنت من اكتشاف أن كل القبائل في حوض الكونغو هي آكلة للحوم البشر». من هذا المنطلق أخذ على عاتقه أن يتحدث عن القبائل التي تمارس هذه الصفة القبيحة وكأن الأفارقة جميعهم في تلك المناطق التي سيقع عليها الاستعمار ليس لها من الطعام إلا لحوم البشر؛ ولا أظنه هنا من خلال هذه الدعاية يريد إخافة الأوروبيين من الدخول إلى تلك المنطقة بالتحديد، بل هي بعض من مسوغات نهب تلك البلاد. حين تحدث عن قبائل البنجلا قدم موجزا عن صفاتهم وأردف عن سبب مشاكلهم ثم وضح ما يفعلونه بالأسرى الذين يقدمون على موائدهم «البنجلا أناس أذكياء ومفيدون جدا، يستخدمون بكثرة على المراكب البخارية، لكنهم آكلو لحم البشر، ويسببون المشاكل باستمرار لهذا السبب».
ولقد أخبرني البنجلا بأنفسهم، حين كنا في رحلات صيد.. قالوا إنهم وحين يكونون في مواطنهم يعدون لوليمة فإنهم يأتون بالسجين أو العبد الذي سيشكل الطبق الرئيسي والذي يكسرون له ذراعيه وساقيه ثلاثة أيام قبلها ثم يوضع في مجرى أو بركة ماء ومغطسا إلى حد الذقن، وقد ربط رأسه إلى عصا لكي يمنع من الانتحار، أو ربما النوم بالتالي الغرق. ويؤخذ في اليوم الثالث ليقتل، وحينها يكون اللحم طريا جدا». ثم يقول: «وبالحكم على ما رأيت من اولئك الناس فإنهم مغرمون بأكل اللحم البشري ومع الجلوس إلى أكلة لحوم البشر لم أصادف حالة واحدة يؤكل فيه اللحم نيئا، فهم دائما إما أن يغلوه أو يشووه أو يدخنوه، وعادة التدخين هذه لأجل الاحتفاظ به لمدة أطول ستكون مفيدة لنا جدا، بحيث إننا كثيرا ما نبقى بدون لحم لفترات طويلة، على أنه يمكن لنا أن نشتري لحما مدخنا من السوق، إلا أنه كان من الصعب التأكد مما إذا كان لحما غير بشري».
الأجزاء المفضلة من جسم الإنسان عند آكلي لحوم البشر:
«مما يثير الاهتمام تفضيلات القبائل المختلفة، أكثر من تفضيلات الأفراد لمختلف الأجزاء من الجسد البشري، فبعضهم يقطعون شرائح طويلة من لحم الفخذ والأرجل والأذرع، وبعضهم يفضل الأيادي والأقدام، وإن كانت الغالبية العظمى لا تأكل الرأس، فلقد صادفت أكثر من قبيلة تفضل الرأس على أي جزء وتستعمل الغالبية تقريبا أجزاء من الأمعاء بالاعتماد على ما تحتويه من دهون». وعلى الرغم من فظاعة الأمر وقبح هذه الجريمة إلا أنهم أي البلجيك كانوا على تعاون تام معهم، بل إنهم يثنون عليهم ويستفيدون منهم على الرغم من تلك العادة المثيرة للاشمئزاز على حد قول الكاتب «وخلال حربنا التي اشتبكنا فيها لسنتين مترافقين مع مجاميع كبيرة ممن تبع معسكراتنا، فمن المرجح أننا حصدنا الفوائد الوحيدة من تلك العادة المثيرة للاشمئزاز. ففي الليل الذي يلي معركة أو اجتياح مدينة فإن تلك الذئاب البشرية ستتخلص من كل القتلى، من دون أن تترك أي شيء حتى للثعالب، وبذلك تخلصنا وبدون شك من أوبئة كثيرة».
وحتى تكون تلك الدولة الحرة في منأى عن الرضا عن هذه الفعلة الشنيعة فإنهم يصورون بشاعة المشهد في أرض المعركة «وعندما يفتح الإنسان عينيه فإنه وبدون صعوبة سيعرف من البقايا المروعة التي يضطر للمرور بها في طريقه، أي شعب قد سبق أن مر قبله على الطريق أو أرض المعركة؛ مع فارق وحيد: أنه سيجد في أرض المعركة تلك الأجزاء التي تركتها تلك الذئاب البشرية للثعالب لأنها لم تتناسب وذوقها؛ بينما على الطريق، وعبر إخماد نار المعسكر في البقعة السوداء التي تشير إلى المكان الذي أشعلت فيه النار، توجد عظام مبيضة، مهشمة مكسرة، تشكل بقايا تلك المآدب المثيرة للاشمئزاز وهي بهذه المناسبة تشكل مفكرات تشير إلى أن «من سيهرب سيقرأ» لمن يعرف عادة تلك القبائل» .
وحين تحدث الكاتب عن شعب الباتيتيلا وهم جنود جونجو لوتيته الذي خان العرب وانضم لجيوش الدولة الحرة فما كان منها إلا أن أعدمته ـ أي البلجيك ـ بتهمة الخيانة بعد أن وطد لها الأمر، أظهر هذا الشعب أنه لا يهتم لدين أو شعوذة أو موت أمام رغبته في أكل لحوم البشر. «شعب الباتيتيلا هم أغلب جنود جونجو أكثر آكلي لحوم البشر تأصلا، وفي غير مرة وبعد قرار محكمة الميدان العسكرية بإعدام جاسوس أو فار من الخدمة، كانوا يقولون لنا في النظارة : «ولماذا تدفنونه؟ لا فائدة من ذلك فعندما تذهبون، سنقوم بالطبع باستخراجه، ولا تأثير لتعليق التعاويذ على القبر بغرض منع الناس من لمسه خوفا من السحر». لم يكن يبدو أن لهؤلاء الناس أي شكل من الديانات ولا خوف من الموت أو الأرواح الشريرة. وعبر بلاد الباتيتيلا نحو الشمال إلى مسافة خمسة أيام سيرا لا يرى الإنسان شيخا ولا أعرجا ولا أعمى. فحتى الوالدان يأكلهما أبناؤهما لدى بروز أول بوادر وصول للشيخوخة، لذلك يسهل فهم لماذا حين تؤخذ الظروف في الاعتبار يظهر الباتيتيلا كجنس رائع .فأكلة لحوم البشر هؤلاء وكقاعدة، لا يبردون أسنانهم الأمامية، ولا يشمون الوجوه».
وإذا كانت هذه الشعوب تميل إلى قطع الشرائح البشرية فإنها وبلا شك تميل إلى تعليق الجماجم، إما لإرهاب العدو أو لطقس من الطقوس التي تذهب الموت عن المدينة «قرية نجاندو قرية عظيمة بيضاوية في سهل فسيح يقطنها عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نسمة كانت تحمى القرية ست بوابات، فبعد المرور بكل بوابة سيتوجب اجتياز نفق بطول ثلاثين ياردة تقريبا .. وقد زينت المعابر لكل من هذه البوابات الست بالجماجم البشرية، ولا يظهر من تلك الجماجم على سطح الأرض إلا اليافوخ منها، لمع هذه الطريق الأبيض كالثلج مرور الأقدام العارية عليه ليصبح بنعومة العاج. وعددت أكثر من ألفي جمجمة على طريق واحد من البوابات فقط». طبعا كل هذا مبرر أن يستعمر هذا الوحش المارد الذي يحرص كل هذه الثروات. علما أن هذه العادة القبيحة لم تكن لتنفرد بها قبائل وشعوب الكونغو فقد «وجد الأثريون عظاما بشرية في أوعية طهي عمرها نصف مليون عام في الصين، ومن أشهر القبائل التي اشتهرت بهذا النشاط قبيلة (أناسازي) في أمريكا الشمالية.
وقد يكون أكل لحم البشر نوعا من التكريم للميت مثلما تفعل بعض القبائل في نيوزيلندا فهي تمجد ذكرى الميت بأن تأكل مخه، فبعد أن يموت شخص له مكانة عندهم تجتمع القبيلة حول جثته وينشدون بعض الأناشيد الدينية ثم يستخرج ساحر القبيلة مخ الميت ويوزعه بالتساوي بين المشيعين ليأكلوا منه («غوغل» موسوعة ويكيبيديا عن أكلة لحوم البشر).

حقيقة العبودية في أفريقيا:

عمد الكاتب إلى كشف حقيقة العبودية في أفريقيا أو بالأخص في حوض الكونغو هذا بعد أن دحر العرب وأصبحت الأرض طوع أمرهم ولاتزال تلك التجارة رائجة، على الرغم من كل القوانين التي وضعوها وكأنهم يبررون لأنفسهم ارتكاب تلك الجريمة التي طالما وسموا بها العرب «فبسرعة وبعد أن أنشئت المحطة الاستوائية اكتشف المقيمون أن حركة متاجرة بالجملة في البشر كانت قائمة على أيدي الأصليين في المنطقة بين هذه المحطة وبحيرة مزومبا. وكان أكثر أولئك الاصليين جرأة هم القبائل التي تحيط بإيريبوا، الذين اعتادوا على أن يرتقوا نهر لولونجو في جماعات مسلحة كبيرة يهاجمون السكان الأصليين على ضفافه». وعليه فإن هذه العادة منتشرة ويجب استخدام طرق أخرى لتحرير هذه الجنس من البشر «وصلنا عند قرية بانيا موتومبا في الرابع والعشرين وهنا قمنا بإعادة ترتيب القافلة. وإزاء طلبنا أن يرسل خمسون رجلا معنا للقيام كأدلاء أو كحمالين إضافيين أبدى بانيا مصاعب عدة، إلا أنه وافق في النهاية على أنه بمقدورنا الحصول على الرجال إذا دفعنا تكلفة ذلك.
حينها اشترى القائد ثلاثة وستين رجلا لقاء قدحين من الخرز لكل واحد ثم هرب عدد من هؤلاء لاحقا إلا أن العديد منهم ترقوا وأصبحوا جنودا جيدين.. ويشكل توضيح الفوائد التي تجني من الحرية أحد أصعب الأمور التي يمكن شرحها لعبد أفريقي عادي».
من هنا ظهرت الحاجة إلى نظام جديد للحريات ابتكره القائد البلجيكي العظيم «أنشأ القائد نظاما جيدا للغاية شعرنا جميعا بفائدته. وهو أساسا تزويد كل رجل أبيض، وعلى حساب الدولة، بأكبر عدد من الخدم الصبيان يختارهم ويوظفهم بنفسه. وهم عادة ما يكونون أوغادا صغارا متوحشين، أو عبيدا محررين مؤخرا، أو أطفال حرب، أو هدايا يرسلون إلينا من الزعماء المحليين. وتمثلت مهمتهم في توفير الراحة الشخصية للبيض … وتتمثل إحدى الفوائد الكبرى في أولئك الصبيان، أنهم إن وقعوا في صعوبة ما في أثناء الاشتباك أو اضطروا للتراجع، فإنهم وبشكل ثابت سيتجمعون حول أقرب رجل أبيض؛ وفكرتهم الوحيدة للأمان هي في وجودهم بقرب الأبيض «. بل بلغ بالرجل الأسود درجة من المهانة أن يؤمن بأنه قد يتحول إلى حيوان أليف ودود لجلاده «وأصبحنا أنا ونيان جونجو صديقين منذ ذلك الوقت. وبعدها بشهور، وحين بدا أنه مجرد واحد من زعماء صغار يدينون لنا بمحض وجودهم، والذين ماكان يتوقع لهم أن يدفعوا لنا أي جزية في أي هيئة أو شكل كان إلا من خلال لوبونجو اعتاد نيان على أن يحضر لي بنفسه هدايا صغيرة ؛ وأعتقد أنه كان يقوم بالغريزة نفسها التي تجعل من الكلب يتودد لشخص قد عاقبه».
كيف لا تكون هذه النظرة واردة وهو يسرد تلك المشاهدات التي تكرس وحشية هذه الشعوب وتخلفها هو المبرر الوحيد الذي يتمترسون خلفه لاستباحة الأوطان «ولقد شاهدت بمتابعة الواقعة التي بقدر ما نهبط النهر من ستانلي فولز، يبدو تزايد توحش الأصليين وغربة تصرفاتهم وقذارتهم وإن كانت بيمبا على النهر الرئيسي هي المكان الوحيد الذي كان فيه الأصليون عراة تماما».
هذه العبارة تختم كل ما أراد الطبيب هايند توصيله من رسالة للقارئ مفادها أو فحواها أن الدولة الحرة أتت لأمرين لا ثالث لهما أولهما: طرد العربي (صائد العبيد).
وثانيهما: تحرير هذا الزنجي الذي يصعب عليه فهم الحرية لما جبل عليه من التوحش والاستعباد.

٭ أكاديمي من سلطنة عمان

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى