النقد النفسي للشعر العربي في 3 كتب

( الجسرة )

*هادي حسن حمودة

(1) من أجل الحق والحقيقة عليّ أن أعترف بأن جيل السبعينيات والثمانينيات الوهرانية جيل قلّ نظيره، وندر مثيلُه. ولهذا الاعتراف حكاية تتمجّد كل صباح ولا تغفو كل مساء.
منذ سنة 1973 إلى تخوم سنة 1985 كنت أتملى جمال الحياة في وهران الجزائريّة. هناك حيث جامعة السانية.. وحيث عايشت الجيل الذي ذكرته. من العجيب أنّ جميع أولئك الطلاب والطالبات أراهم وكأنهم لمعة نجمة من نجوم السّماء، تتمرّى في البحر، على شواطئ الأندلس وتتغامز فوق أشجار غابة مسيلة.
ودارت الأيام.. ولم تتعطل لغة الكلام.. فقد كان التواصل مع أولئك الطلاب يجري كما سَنن النهر، منتقلا من دجلة والفرات إلى شواطئ وهران، وجمال طبيعتها الساحرة، وآخذا من ثقافتها بنصيب كبير. ذلك الجيل يكتب لي في الخاصّ والعامّ شاكرا ما يسميه نفعا قدمته لهم في تلك الأعوام التي انقضت كلمح بالبصر. فكنت أرد عليهم، وما أزال أقول: هم أصحاب الفضل عليّ، وليس لي من فضل عليهم ولا على أي أحد. فآنذاك كنت أقوم بواجبي، وأُؤدي أمانة العلم والمحبّة، رغم من كان يريد ثنيي عن ذلك من (زملاء) عمل قدموا من أفق آخر، بزعم أني إن قدمت لهذا الجيل الرائع ما ينفعهم من علم، فلسوف يحلون محلي مستقبلا، ولكني أحمد الله أن لي أذنا صمّاء، فلم أفهم ما يقولون.

(2)

ما المبرر لهذا الكلام؟
المبرر يا أعزائي أن الأغلب الأعم منهم واصلوا طريق العلم، ووصلوا إلى مراكز علمية مرموقة، في داخل الجزائر وخارجها. والمبرر يا أعزائي أن حبّا يربط بيني وبينهم، وبينهم وبيني.. حبل ممتد مبسوط بالطيبة وأحلى الذكريات. ربما لا يقنعك هذان المبرران، لا بأس، فثمة حقيقة قائمة، أن منهم مؤلفين وباحثين علميين بكل معنَى الكلمة، يسعدوني بالحوار معهم. ومنهم زائري العزيز عبد القادر فيدوح، الذي زامل هذا الجو الممتع في لندن جلبه معه من الخليج، وحاملا لي بعض ما كتب. تمليت ما قرأت مما وهب.. فرأيته عالما مجددا وجادا وممعن التفكير في ما يعالج من قضايا بعضها لم يُعالج من قبل، كالذي رأيته في كتابه «الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي» فهذا أول كتاب في اللغة العربية، يبحث عنوانه المدوّن، يرتكز على مفصلين:
الأول: التحليل النقدي النفسي للشعر العربي.
والثاني: تحليل نفسية الناقد نفسه، إذ إن الناقد الذي يتبنى النقد النفسي للشعر، فيحاول الكشف عن نفسية الشاعر، هو نفسه لا بدّ أن يخضع لمنهج التحليل النقدي لممارساته النقدية النفسية، من أجل معرفة مدى تأهله لنقد الشعر نقدا نفسيا. أقول وأنا على أتم دراية وقناعة إن هذا الكتاب يستهلّ مرحلة جديدة من الوعي النقدي العربي، بعد الانهيار الكبير الذي أصاب الأدب ونقده منذ نصف قرن على أقل تقدير. ثم يأتي كتاب آخر له عنوان شاعري رهيف «معارج المعنى في الشعر العربي الحديث» ليرمز بالإهداء إلى موسيقى اللغة العربية قائلا:
(إلى رحاب الأُنس..
أُنْسَةُ هِبَة..
وأُنْسُ كَنْز
آنستُ منهما رُشدا)
وعلى الرغم من أني من المدرسة الخليلية للشعر، أي العروض أوزانا والقوافي ميدانا، وأن الكتاب يحلل نصوص ما يُعرف بالشعر الحديث، فقد أسرني التحليل العلمي الموضوعي، لأنه هدف إلى استجلاء الواقع من نصوص هذا النوع من الشعر. وأرى المنهج سليما، خاصة في زمن قل فيه الشعراء الكبار المتمكنون من فن الشعر والجديرون بأن يُتّخذوا أفقا لفهم تفاعلات المجتمع المعاصر.
ومن المعلوم أن استجلاء صورة المجتمع من النثر، قصة ورواية، وما جاورهما من نصوص يُطلق عليها وصف الشعر، شعر تفعيلة أم شعر صورة، أو ما إلى ذلك.. أقرب لواقع الحال من استجلاء صورة المجتمع من الشعر، باستثناء الشعراء الكبار من أمثال الجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد (في العراق) وغيرهما في البلدان العربية الأخرى. فهؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ومجتمعهم بأصالة وموضوعية إلى حد كبير، رغم الاختلافات السياسية والاجتماعية والانتماء القطري والديني.
هذا الكتاب ينقلك من المدرَك المعلن إلى المدرك الباطني.. إلى استيهامات من ظلال أوهام ذلك الشعر أو حقائقه. ثم كتابه الثالث، والمتأصل على المحبة والجمال، من عنوانه «التجربة الجمالية في الفكر العربي» فهو بحث وسبر وتعميق نظر في هذه التجربة الجمالية التي يستقيها المؤلف مبتدئا من البنية الذهنية للتجربة الجمالية ومتوسطا بالجمال والتجلي الإلهي بعبارة موحية في عنوان الفصل «الجمال جوهر الألوهيّة» مختتما بالوعي الاعتباري والمعايير التي يراها متمثلة بمبدأ التماثل، ومبدأ الاختلاف، ومبدأ السببية، والعلة الغائية.

(3)
وثمة اعتراف آخر

لست معنيّا بتجليات الروابط الاجتماعية حتى لو كانت حبا يقطر شهدا.. فأمام التقويم النقدي تسقط أقنعة الروابط.. ولكن لا للتضحية بالحقيقة الجمالية للنص المنقود. لأنّ النص هو الذات الحقيقية للناصّ والمتناص.. ولأنّ الجمال من هذه الذات الحقيقية، فحسب.. فلا يعنينِي أن يكون الناقد الباحث من رمل الصحراء أو شاطئ البحر.. يعنيني أن تكون الذات باحثة عن الحق أصالةً، لا نيابة ولا تقليدا.. أن تكون لها تلوينات في البحث أو تكوينات.. ولذلك لا يعنينِي الباحث إلا بما أنتج ووصل إليه من نتائج تثري هذا الجيل ومن سيأتي. وليس من المهمّ أن أغاير ما أنا مقتنع به من منهج رؤية للنص أكثر من الناصّ.. ذلك أنّ النصّ يسارقنِي النظر والعِبَر والعبرات، في تركيبته، وفي بنائه، في جماله الصاعق، أو برده الصاقع.. يعنينِي أن أنظر في بحث يكشف عن كاتبه، وعصره، وتضاريس المكان.. وفرق بين أن أضع عبد القادر فيدوح في قفص من علاقة التوازي أو التّضادّ، وبين أن تتفجّر رؤيته الناقدة بين يديّ، كشظايا المرايا، كاشفة عن الزئبق، والزّنبق، وانفجارات دهشات الأسرار، وما أراد وما لم يُرِدْ..
فرق بين جمود التنظير القاتل للإبداع، وبين الإبداع القاتل للتنظير.. وبين تلاحمهما معا في مسيرة الكينونة الثقافية والمعرفية. كما لا يهمنِي أن أكون مصيبا، بمقدار ما يهمنِي أن أكون صادقا، في الرؤية والتحليل والتعبير.. أعنِي أن اكون صادقا مع القيم الفنّيّة التي يمليها عليّ النّصّ نفسه، لا أن أكون مستعيرا منهجا، أو مقلّدا طريقة بحث وكلام، ولا أن ابتدع نظرية، في فن الفكر المتجلي في الأدب عموما والشعر خصوصا.. وما الشّعر إلا الفكر وإلا الشعور وإلا الكشف عن الذات والخاص والعامّ!
كم أتمنّى لو يسكت المنظّرون الجوف، فلقد ملّتنا المنقولات، والمقولات، والقالات، روى الراوي وقال القائل، وفي المسألة وجهان، وأكّد كروتشيه، وأنشد كولردج، وصرّح إليوت، وقام بريفير، ونام الجاحظ، ورأى ابن قدامة.. فلعلي أرى طحنا، وحينها لا بأس أن أسمع جعجعة..
من هنا.. فثمة عمالقة يتجاوزون تخوم التاريخ وأزهار الدفلى، ويتجاورون مع الخلود وأشجار الصفصاف والنارنج.. تطيب الرحلة معهم إلى فيافيهم أو واحاتهم.. وعلى رأسهم هذا الباحث النحيل الرشيق.
هذه الكتب الثلاثة لعبد القادر فيدوح الجزائري الساكن في مقلة الخليج، تعبر الأيام والأعوام، تتسكّع في صحوة الشمس وضحوة النهار وسمر الليل تفتّش عن وطن وغربة.. أو عنهما وهما يتغازلان في إغفاءة شجرة الصفصاف والنارنج والليمون وسعفات النخيل وغبش الضباب والفجر المطلّ على نهار جديد.. جديد.. في رحلة عبر الفكر، وعبر تضاريس الانتماء، تبحث عن شيء، قد لا يبين بوضوح ما بحث عنه المنتمون وكشفوه، ولكنه، شيء يرتبط بالفكر والعلم والثقافة.

٭ باحث وأكاديمي عراقي – لندن

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى