قادة الثورة في البرلمان والثوّار في السّجون

( الجسرة )

*سارة ضاهر

«ستُقتلون على يد جيش جرّار يأتيكم من أرض الحبشة، يُقوّض سلطانكم، ويستعبد أحفادكم من بعدكم ألف عام حتى يلدوا جوهرتين، إحداهما من بطن أمة لهم وأخرى من سادتهم، الأولى تموت والأخرى تأتي من أرض بعيدة، سيخلّصهم سلطان عادل، ويجتمعون من كل مكان في وادي العجائب والذهب». تلك هي النبوءة التي قالت بهزيمة «الأحفاد» بعد مجد، وشتاتهم بعد وحدة، واسترقاقهم بعد سيادة وقوة. والأحفاد، كما توضح رواية «نبوءة السقا» للكاتب السوداني حامد الناظر (دار التنوير)، هو اسم مستلهم من أسطورة شعبية قديمة. نبوءة قادتهم إلى الحريّة، وأجلست فرج السقا كما محمد الناظر على مقاعد برلمان حكومة الاحتلال، وأعادت محمود (حبيب فاطمة) مهزوماً إلى صفوف الثورة، وأسكنت فاطمة مثواها الأخير.
يلجأ إلى الحوار، وزمن مُتكَسِّر بين الحاضر والذكريات والأسطورة، ومكان ممتدّ، على رغم ترسيم حدوده جيّداً، ليطاول بلداناً كثيرة، عاشت الواقع ذاته. يعرض الناظر لصراعَين، خارجيّ: بين إرتيريا برمز بلدة (عجايب) الواقعة على السّاحل الإرتيري، والاحتلال الإثيوبي، في ستينات القرن العشرين، لتبدأ بذلك محاولات الانتفاضة عبر اللجوء إلى الثورة المسلّحة التي جوبهت بالقتل وإحراق القرى الثائرة وإتلاف أملاكها… وصراع داخليّ: بين «الأوتاد» الذين يعيشون أمجاداً مزمنة و»الأحفاد» الطامحين الى صنع مستقبل جديد، عبر السّياسة والتجارة، يكونون فيه أصحاب القرار.
اختار الناظر طرح موضوع اجتماعيّ، سياسيّ وتاريخيّ، أقرب إلى الواقع منه إلى عالم الحكاية، الأمر الذي يشير إلى عمق معرفة الكاتب بهذا المجتمع، عبر سرد تفاصيل كثيرة، واعتماد وثائق ومراجع. يروي ما عانت وتعاني منه فئات كثيرة من الناس، عاشت في ظلّ حقبات متتالية من الحكم المستبِدّ، وسعت ضمن إمكاناتها البسيطة، الى نيل حريّتها. ويختار الروائيّون في هذه الحالة، اللجوء إمّا إلى الترميز أو قصص الحبّ أو الخرافة أو التاريخ، كما هي الحال هنا.
طوال التاريخ، وإلى وقت قريب، كان الأحفاد وغيرهم من المسحوقين، يعيشون في ظلّ سادتهم «الأوتاد»، لا يملكون صوتاً بين القبائل في رأي أو مشورة، لا يستقبلون ضيفاً ولا يجيرون مستجيراً. الأحفاد لا يزوّجون ولا يتزوّجون من دون موافقة أسيادهم. وإن حدث، ولو سراً، الرجل منهم يُنفى والأمة تُطلّق ثمّ لا تجد مَن يطأها.
بعد ما يزيد عن ألف سنة من الخضوع التّام، قرّرت بعض العائلات المسترقّة الخروج من تحت عباءة سادتها «الأوتاد»، وأعلنت أمام الملأ رغبتها في تأسيس كيانها الخاصّ بها، وطلبت من الحكومة أن توافق على تسمية فرج السقا ناظراً عليها.
حكاية شعب
هي حكايات شعب، يضيف إليها الراوي ويحذف منها كيفما شاء، فتلك ساحته التي لا يجاريه فيها أحد. وإذا ما أردنا أن نستخرج مؤشّرات تلك الحقبة الثوريّة، وما يرافقها من قصص حب، ومحاولات تمرّد، وظلم واستبداد، وخيانة للثورة، لوجدنا أنّ هذه العوامل مجتمعة في رواية الناظر.
نبدأ مع الأفكار الوطنيّة المتداولة سراً بين الشباب، والتي ترسم صورة مشجّعة لأولى التفاعلات الوطنية الجماهيرية في عموم البلاد، إلا أنّ الوضع كان مختلفاً بعض الشيء، ورمى بطموحات الشباب في الهاوية. إذ خلّف مقتل الناظر حسين وزعماء آخرين، تمّت تصفيتهم بين أهلهم وناسهم، وفي وضح النهار، نفوراً من قيادة الثورة، وشكاً في قدرتها على لمّ الشمل الوطني لمواجهة الاحتلال طالما أنّ سلاحها، وُجّه أوّل ما وُجّه، نحو رموز الشعب وزعمائه القبليّين، وهو ما كان اختباراً عسيراً عجزت الثورة لاحقاً عن تجاوزه أو تبريره.
ننتقل إلى فاطمة التي كان لها الدور الأبرز في الرواية، هي التي أثّرت في كلّ مَن عرفها بجمالها الاستثنائي. لعلها محظوظة، أو لعلّ الزمن قد اختارها لتؤدّي دوراً فوق طاقتها، وتكون رمزاً لكلّ ما هو جميل يسعى إليه الناس المهمّشون. إضافة إلى شخصيّات أخرى مثل أستاذ اسماعيل، محمود، العم أبو علي، خديجة، الحاج حامد، أشقاء فاطمة أو «حراس الكنز»، وآخرين شكّلوا جميعاً، مجتمعاً مهمّشاً يسعى إلى الحريّة.
فاطمة التي طلب يدها المأمور، ذلك الحاكم الجبّار، الذي يشكّل مدخلاً لزعماء قبيلتها، ليحصلوا على رضا الحكومة ودعمها، في صراعهم مع القبيلة الأخرى (الأوتاد). لكنّ زعيم الأوتاد يطلب يد فاطمة للزواج أيضاً، بغية إحلال السّلام بين الجماعتين المتنازعتين. ليخرج الصراع مع «الأوتاد» إلى العلن بسبب هذه الزيجة الغامضة.
لكنّ قصة حب فاطمة لمحمود، الشاب الفقير الثّائر، والتي كانت الدافع الأساسي وراء انتحارها وعدم تمكّنها من الزواج بالمأمور أو بالناظر، جاءت في لحظة غير مناسبة في الزمن. كان يمكن هذه القصّة أن تكون مليئة بكلّ ما تحتمله قصص الحبّ من لهفة وحبّ وشغف وألمّ ولذّة، قد لا تغيّر مجرى التاريخ ولا تتخطّى حواجزه، ولا تبعث أمّة ميتة ولا تصنع حضارة. حكاية عاديّة كأيّ حكاية تعبر ذاكرة الأيّام. لماذا يحمّل النّاس الأشياء ما لا تحتمل، ولماذا يجبر الإنسان على دفع ثمن لا يريد دفعه؟
كيان جديد
هكذا ذهبت فاطمة إلى غير رجعة، ماتت، اختارت لحظة النهاية بحيث تقلب النبوءات كلّها. ذهبت فاطمة التي حمّلها الأحفاد عبء تاريخهم، حلّقت بعيدا حتى اجتازت المدى والزمن والتاريخ وتركتهم معلقين في الفراغ. لقد انتقمت منهم بموتها. زفّت فاطمة مرّتين بين طرفي ليلة واحدة. في اللّيل عروساً وفي الصباح إلى المقبرة.
بعد حبّ فاطمة، نقرأ في زيف رغبة «السقا» في خلق كيان جديد، وبناء منظومة إنسانيّة جديدة، بعد إقناعه الناس بأنه لم تعد للأوتاد سلطة، وما كان في أيديهم في ما مضى صار لا يعدو الآن كونه سلطة باهتة ضعيفة، بينما قوة قبيلته «الأحفاد» قوة جديدة صاعدة وعليها أن تأتي بأدواتها المستقلة وزمنها الذي لا يشبه ما قبله.
لنشهد عبره خبث السياسيين وانتهازيّتهم، التي تغيّر مصير معظم الثورات. نشهد محمد الناظر زعيم الأوتاد، وفرج السقا زعيم الأحفاد، اللذَين يعكسان صورة رجل السياسة الداهية والمتلاعِب بمشاعر أتباعه. هما أشبه بزعماء الطوائف عندنا، الذين، في سبيل تحقيق مصالحهم، لا يتردّدون في القيام بأيّ شيء. إذ تكشف الأحداث أنّ السقا عرف كيف يستغل النبوءة، فحبَكَ القصّة، تحت الطّاولة، مع عدوّه الأزليّ زعيم الأوتاد، واتفقا معاً على إبقاء الوضع كما هو، لتبقى زعامة القبيلتين بعهدتَيهما. وفي النهاية، نجد أنهما وصلا إلى السلطة، وأصبحا عضوين في مجلس نواب حكومة الاحتلال، بعدما أسفرت خطاباتهما في القبيلتين عن مقتل العشرات وتهجير المئات.
هذه هي حكاية الناظر، حكايتنا، وحكاية أوطاننا وثوراتنا وزعمائنا. على أمَل ألا تكون هذه هي نهايتنا.

المصدر: الحياة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى