«فرح» ليوسف فاضل: قلب ينبض داخل تابوت

( الجسرة )

*سارة ضاهر

«قلبي لا يزال ينبض تك تاك تك تاك…» قلب ينبض داخل تابوت، وقلوب أخرى، تسير ميتة على الطرقات. رواية «فرح» (دار الآداب) للكاتب المغربي يوسف فاضل، تختصر بعنوانها طموح فئة مهمّشة من الناس، يسعون إلى الأفضل دون أن ينالوه.

نبدأ من عناصر الرّواية، حيث يعتمد الكاتب الزمان المتكسّر، بين استباق واسترجاع، من بداية الرّواية التي تنطلق من نهايتها: تموت فرح في حضن عثمان، يضعها في تابوت ويُسلّمها إلى البحر. كما يعتمد المكان الملائم لجوّ الحكاية: عائلة مغربيّة فقيرة تعيش في حيّ يتمّ العمل على تشييد مسجد فوقه. وتنطبع في ذهن القارئ تلك الصّورة القاسية الّتي رسمها الكاتب، حول بناء مسجد فوق حيّ فقير، يتمّ تمويله من تعب البؤساء وكدّهم. ملامح مكان تصفع مجتمعًا لا يفقه حقيقة الدّين، ولا شعاره القائم على تكريم الإنسان. بل نراه يُظلَم تحت رايته، ويتمّ وضعه في مكانة أدنى من لمس حجارة بيت الله. وهذا ما لا يريده الدين، خاصّة أنّ الهدف الأسمى لأيّ دين هو الارتقاء بالإنسان، والعمل على مساعدته في الدنيا لبلوغ آخِرَة حسَنة.

تتساوى مراحل سرد الرواية، عند صاحب «حشيش» و «طائر أزرق نادر يحلّق معي»، مع مراحل بناء المسجد، لنرى كيف يرتفع بيت الله، فيما تنهار صورته، الّتي يجسّدها الإنسان على الأرض، وتضعف قدرته على الاستمرار في تحمّل أعباء هذه الحياة.

حلم مفقود

تروي «فرح»، بطلة الرواية، مشوار حياتها، بدءًا من انتقالها من بلدة «أزمور» الفقيرة إلى «الدار البيضاء» كي تحترف الغناء مثل صديقتها نعيمة. لكنها لم تغنّ، بل رأت المسجد. كلّهم رأوه… ورأوا الإعلان في جريدة الصباح : «أيها المواطنون، ساهموا في بناء المسجد». «فرح» الّتي فقدت حلمها، اضطرّت إلى التسكّع والضّياع. التقت صدفة بعثمان الّذي يعمل مع والده في تسقيف المسجد وتزويقه. وأخذت تتردّد على ورشة المسجد حيث يعمل، تعاشره وتختفي، ثمّ تعاوِد الكرّة مرّاتٍ ومرّات، وهو ينتظر عودتها بشوق. شوق عاشه القارئ صورًا حميمة لعلاقة حب جميلة، تُظهِر بساطة «فرح» وشقاء «عثمان»، وما بينهما وبين المجتمع من انحدار، وضياع، وتشوّش، وذكريات، وشهوة، وتوتّر.

تتعدّد أساليب السرد، ويدخلنا الكاتب في تفاصيل كثيرة، لكن غير مملّة. أساليب برزت معها قدرة فاضل على التحكّم بمستويات السّرد المختلفة. إذ تنقسم الرواية إلى سبعة أبواب، كلّ واحد منها يشتمل على مقدّمة بضمير الغائب، تتلوها فصول على لسان عثمان ثمّ فصل تحكيه إحدى الشخصيات الأساسيّة (فرح، نعيمة، كنزة، الوالد، الوالدة، سليمان)، ليطغى صوت عثمان على الأصوات كلّها، طارحًا مسألة الحظ، وأسباب التفاوت بين الناس، وخفايا أحداث لا مبرّر لوقوعها، أو حيوات لا نهاية واضحة لعذاباتها.

لماذا يتساوى الفقراء والأغنياء في دفع المال لبناء مسجد باذخ، ويختلفون في الأمور الأخرى كلّها؟ لماذا تمّ استغلال «فرح» ونهب أموالها وفقدان حلمها؟ لماذا عودة «سليمان» (شقيق عثمان) في تابوت من السعوديّة، مقطوع الرأس من قبل صاحب العمل؟ قد نبحث عن إجابات، ولكن لا ضرورة طالما أنّ حياة البؤساء، هي هي، منذ الأزل وإلى الأبد: مآسٍ يروونها بأنفسهم.

تطرح الرواية إذًا مسائل اجتماعيّة عدّة، وتقتضي قراءة العمل وفق المنظور الاجتماعي، النظر في كيفيّة احتجاج الكاتب على القيود المفروضة على الإنسان، وطرحه سبلًا لمقاومتها. قيود كالطبقية، العنصريّة، الدين، الجنس… التي لا يقتصر دورها، في الرواية كما في المجتمع، على فرض نظامها على نماذج فرديّة، بل إنها تشكّل مجموعة من الإحداثيات التي يمكن، من خلالها، تفسير المواقف الاجتماعية. وقد اختار الكاتب الحب سبيلًا لفك القيود، ومنقِذًا لعثمان ليتحرّر من حياة البؤس الّتي يحياها. حبّه لـ «فرح»، المُحِبّة بدورها للحياة، أعانه على مواصلة الطّريق وتحمّل ما لا يُحتَمَل. وإن ماتت فرح، إلا أنّ الأمل باقٍ، وزواجه، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على وفاتها، من امرأة أخرى، تلد بنتًا يسميها «فرح»، ما هو إلا دليل على ذلك. دليل على أنّ الفرح سيأتي ولو بعد حين.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى