الفيلم المصري «اشتباك»: سينما الرقص على الحبال

( الجسرة )

بعيداً عن الضجة المُفتعلة التي صاحبت الفيلم المصري «اشتباك»، الذي كتبه خالد ومحمد دياب، وأخرجه الأخير، الذي عُرض في افتتاح عروض قسم «نظرة ما» في مهرجان كان الفائت، وأخيراً صاحبته الدعاية الكبيرة بأنه فيلم خارج عن المألوف، وخارج عن سياق الإنتاج السينمائي المصري، ذلك في حالة وجود إنتاج سينما حقيقية في مصر الآن.
هل لنا أن ننظر إلى الفيلم من خلال تقنيات الفن السينمائي فقط، أم أن الحِس السياسي المفروض هو ما سيقود وجهتنا؟ خاصة أن الفيلم يتناول موضوعاً يتماهي مع ما هو سياسي، الأمر يستدعي مناقشة أفكار الفيلم ذاته وكيفية التعبير عنها من خلال فن السينما، من دون الخوض في تفاصيل وتصنيفات ندرك ابتعاد الفيلم عنها بعد مشاهدته، مثل كليشيهات استخدمها الكثيرون، ومن قبيل الفيلم الثوري والفيلم السياسي والفيلم المغضوب عليه من قِبل الدولة، والمُسمى الأخير جدير بأن يكون خير مثال في الدعاية لأي عمل فني يبحث عن فرصة للتميّز والاختلاف، في ظِل أعمال تنتمي بالمُسمى فقط إلى كونها سينمائية.
الفيلم أداء كل من نيللي كريم، طارق عبد العزيز، هاني عادل، خالد كمال، أحمد مالك، حسني شتا، عمرو القاضي، جميل برسوم، محمد السباعي، مي الغيطي، أشرف حمدي، علي الطيب، محمد علاء، محمد عبد العظيم، محمد رضوان، أحمد داش، محمد السويسي، عاطف عمار، محمد جمال، أحمد عبد الحميد، وأحمد التركي. مدير التصوير أحمد جبر، مونتاج أحمد حافظ، صوت أحمد عدنان، موسيقى خالد داغر، ديكور هند حيدر، وأزياء ريم العدل.

أحداث 30 يونيو

على خلفية أحداث 30 يونيو/حزيران عام 2013، وفي أعقاب عزل محمد مرسي وانقسام المجتمع المصري وصراعه مع جماعة الرئيس المعزول، تتوقف سيارة الشرطة لتجمع فيها كيفما اتفق وفي شكل عشوائي، جموع من المواطنين من مُختلف التوجهات والفئات الاجتماعية، مجموعة تنتمي إلى جماعة الإخوان، صحافي مصري يحمل الجنسية الأمريكية وزميله المصوّر يعملان لصالح وكالة إخبارية، مواطنون عاديون يحملون العلم المصري ويُشاركون في الحدث الجلل، وفقاً للدعوة التي وجّهت للشعب بالنزول في ذلك اليوم للتخلص من حُكم الإخوان، إضافة إلى المُحبين كما أطلق عليهم الفيلم، ويبدو أنهم ينتمون إلى التيار السلفي، كذلك بعض من ممثلي تيار البلطجة، الحليف الدائم والموجود دوماً في مثل هذه الكرنفالات، كذراع للدولة في شكلها المدني، من دون عساكر الجيش أو البوليس. وهكذا تم وضع هذه النماذج والأنماط داخل عربة الترحيلات، ليبدأ الصراع بين روادها وكأنها أصبحت في مباشرة صارخة تعبّر عن حال المجتمع المصري. ولنا أن نستنتج طبيعة الصراع والحوارات وحالات التخوين والمصالح مع هذا وذاك، وكذلك خلق مساحة من الحالات الإنسانية، حتى يتم نسيان ــ فقط نسيان ــ هذا الاختلاف، وهو أمر ينفيه الواقع وتنفيه الوقائع بعد ذلك.

التأسي المزعوم

في هذه الحال يبدو الجميع ضحايا، سواء لأفكار مغلوطة، أو التشبث بفكر عقائدي أو أيديولوجي، أو حتى اقتصار ذلك على تحقيق مصالح محدودة كبعض النقود وما شابه من جيل البلطجية الذي ترعاه الدولة، والذي تستخدمه كميليشيات خفية تصلح للمواجهة مع الآخرين، وتعاود استخدامه في الكثير من معاركها ضد معارضيها. فكرة الضحايا هذه تطال أيضاً رجال الشرطة، الذين يسقطون في خضم المعارك الدامية ــ وهو ما حدث بالتأكيد ـ ولكن الدراما لا تصنعها النوايا الحسنة، فالجميع طيبون، إما سُذّج أو تم التغرير بهم، حتى المتعصب منهم، ليس موقفه إلا رد فعل على تعذيبه في سجون النظام، وهو الآن يرى أن جهاده الأمثل سيواصله في سوريا كمكان يليق بتاريخه. الأمر يتحوّل إلى إحدى الحلقات الساذجة من حلقات هراء التنمية البشرية، على سبيل «إنتَ كويس بس مش واخد بالك»، الكل كويس ومش عارف إيه اللي بيحصل أو هيحصل! هنا تسطيح كبير لتعقيدات ما يمر به المجتمع، من أفكار ومعتقدات، بداية من الجهاد في سبيل أي شيء، وصولاً إلى المعاملة الحانية لضابط الشرطة مع المقبوض عليهم، لم يطلق أي من الضباط الرصاص مباشرة، بل فقط قنابل الغاز والماء، وماذا عن القتلى والتحرّش بالنساء والفتيات، وضرب المعارضين؟ الأمر لا يخص حدث 30 يونيو فقط، والفيلم لا يرقى لفكرة الفيلم الوثائقي الذي يوثق للأحداث، والذي بالضرورة سيأتي مُخالفاً للصورة المعروضة، فعن أي بلد يتحدث فيلم «اشتباك»؟

الرقص على الحبال

لم يرد صُنّاع الفيلم خسارة أي من الأطراف، فكانوا أشبه بالراقصين فوق الحبال، ولكن حتى حرفة الرقص لم تكن تتوافر على قدر من الإبهار، حتى ينسى المُشاهد الخدعة ويُعجبه العرض. ويبدو أن الحبل كان موضوعاً فوق الأرض، دون أن يكون مُعلقاً في الهواء.
فكرة إرضاء الجمـــيع وأن «بعــــض الظن إثم» في الفن هي من أسوأ الأفكار ووجهات النظر العائمة، فلا توجد موضوعية في الفـــن أو في وجهــة النظر، والحديث عن شيء موضوعي ومحايد هو من سبيل الوهم وتصديره. وبهذا تنتفي مقولات الثورية عن الفيلم، أو أنه حتى خارج نطاق المُعتاد، أو خارج حدود المسموح به.
مهارة اللعبة تنكشف عند المقارنة بأفلام أخرى تم إنتاجها في ظِل النظام السابق ـ نظام المخلوع ـ التي كانت تنتقد السياسات ـ لا النظام السياسي ـ وتدّعي أنها مع المجموع ضد الفئة الضالة الحاكمة.
أعمال تمت صياغتها بحرفية عالية، ونالت من النجاح ما نالت، وكأنها صرخات الناس في مواجهة الظلم البيّن ـ راجع أعمال وحيد حامد وعادل إمام وشريف عرفة، كالإرهاب والكباب والمنسي واللعب مع الكبار ـ ويبدو أن مستوى تلك الأفلام كان على المستوى نفسه من ذكاء النظام الذي تم إنتاجها في ظِله، على العكس تماماً من نظامنا المتخبط الحالي، الذي لا يعرف ماذا يريد، ولا يرى سوى صورة إنجــازاته فــي مرآة أوهـــامــه، فالمؤامرة معقودة، والمتربصون في كل مكان، ولا أجد ختاماً أفضل من كلمات مخرج الفــيلم نفســه على صفحته في «الفيسبوك» إذ يقــول… «لو الناس مدخلتش الفيلم في أول كام يوم فيه احتمال كبير متلاقيهوش ومتشوفهوش خالص… الخطة دي لو نجحـــت معتقدش حد هيجرؤ إنه يعمل فيلم ضد الفكر السائد أو يخاطر بأي فكرة أصلاً لأن مين منتج هيبقي عاوز يخاطر بفلوسه في مشاريع بتتوقف قبل ما تجيب فلوسها». وشوفوا الفيلم يا مصريين.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى