في الحاجة إلى الناقد الأدبي الثاقب الرصين

( الجسرة )

*عبدالله زروال

لا ريب في أن الناقد الأدبي الثاقب الرصين هو ذلك الناقد الذي لا يكتفي في مقارباته بتسخير المنهج العلمي الفعال، والمصطلح النقدي الدقيق، واللغة الواصفة السلسة، والرصيد الثر من المقروء الإبداعي، وتنوع الروافد المعرفية؛ وإنما يجند فضلا على جماع ذلك كله، وربما في المقام الأول، قدرته الفائقة على الفهم والتحليل والحكم، للنفاذ الرفيق الذكي إلى الأثر الأدبي؛ كل ذلك ليبوح له هذا الأثر طوعا بأسراره المخبوءة، ويسلمه، دونما تمنع، بعض مفاتيحه المدسوسة، فتنجلي حينئذ عتمات النص، وتمتلئ فراغاته، وتنفتح آفاقه المنسدة أمام القراء، فاتحة مسالك محتملة لقراءات متجددة.
إن هذه الطبقة من النقاد لا نعدم لها وجودا في الممارسة النقدية المغربية طبعا، وهي طبقة وازنة الحضور، قوية التأثير، وهاجة الإشعاع؛ لأنها حاملة لمشروع نقدي خاص، وتشتغل وفق استراتيجية مضبوطة الخطى، واضحة المقاصد؛ غير أنها لا توجد لوحدها في الساحة النقدية، وإنما يوجد إلى جانبها نقاد آخرون باتوا يكتسحون الميدان النقدي، بل ويملأونه ضجيجا وعجيجا، ويمكن أن نضع هؤلاء في فئتين مختلفتين:
الفئة الأولى: يعول نقاد هذه الفئة في الأساس في اشتغالهم النقدي على حيازة خلفية نظرية، فكتاباتهم تشي باستيعاب واضح لمفردات المناهج النقدية، حيث تأتي في الغالب فياضة بالمفاهيم والمصطلحات، مسهبة في المقدمات والمداخل، مكثرة من الإحالات النظرية؛ بيد أن هذه الصلابة العلمية والمطلوبة في العمل النقدي، تتحول لدى كثير منهم إلى تصلب نظري يتعسف في إخضاع النصوص الإبداعية، فيعملون فيها تشريحا بأدوات غير ملائمة أحيانا، فيتأذى لذلك العمل الإبداعي؛ والحصيلة في النهاية كتابات نقدية جامدة لا هي بالسائغة ولا الخلاقة، تتميز بفيض التنظير، وعقم التطبيق؛ لأن حيازة علبة أدوات جيدة لا تؤدي بالضرورة إلى إنجاز عمل متقن.
الفئة الثانية: تجب الإشارة في البداية إلى أن نقاد هذه الفئة لا يسميهم أحد نقادا اللهم إلا تجاوزا؛ وإنما هم الذين يعلنون أن هويتهم في الكتابة هي النقد الأدبي؛ بل إن منهم من لا يتورع عن التبجح بأنه ناقد أدبي متعدد الاختصاصات؛ حيث إنه يتناول كل ما يقع بين يديه من أعمال أدبية مختلفة الأجناس من شعر، وقصة، ورواية؛ بل إنه يتخطى في أحايين كثيرة دائرة الأدب، فيتجاسر على الفنون البصرية، كالمسرح، والسينما، والتشكيل، ويصبح بقدرة قادر ناقدا مسرحيا وتشكيليا وسينمائيا. إنه يشتغل على البواكير الإبداعية بتعلة حفز الشباب على الإبداع، فيصف الشاب المبتدئ الذي يشق أولى خطواته في درب الإبداع الشاق والطويل بالكاتب الكبير، وأثره الإبداعي بالناضج المكتمل الجدير بمجاورة عيون الأدب على رفوف الخزانات، فيكون ذلك منفذا إلى الاغترار، وباعثا على الاستسهال؛ كما أنه يتجرأ على أعمال المبدعين الكبار، مراهنا على ذيوع صيتهم، وصدى إبداعهم، ليثير الانتباه، ويستجلب الأنظار، باحثا له عن موضع قدم في مضمار النقد.
إن كتابات هذه الفئة تأتي في الغالب ثمرة لقراءات متسرعة لم يبذل فيها جهد، ولم ينفق فيها وقت، ولم يصرف لها صبر وأناة؛ لذلك لا غرابة في أن تأتي متسمة بالسطحية، والملامسة العابرة، التي تطفو على سطح العمل الإبداعي، ولا تتوغل في أبعاده، ولا تنزل إلى قاعه، تركز في الغالب على عرض عتباته عرضا عاما، أو على إبراز ثيمة من الثيمات، أو ملمح من الملامح الفنية بطريقة انطباعية تأثرية يغلب عليها التكرار والاجترار، وبلغة تنزع في الغالب إلى التقريرية والإنشائية.
ولإضفاء بعض المصداقية على كتاباتهم يشيع نقاد هذه الفئة على أنفسهم بأنهم إنما يقدمون قراءات عاشقة اختيارا وإيثارا، مستغلين مراكزهم المهنية أو الجمعوية أو ألقابهم العلمية، ومستفيدين من مساحات النشر المتاحة في المنابر الورقية والإلكترونية خاصة، ومتسللين إلى منصات الملتقيات الأدبية، والجلسات النقدية. والمثير للامتعاض في الموضوع أن بعضهم يتجشم مشقة السفر الطويل، ليقدم ورقة فارغة المحتوى، مضطربة البناء، فاقدة للتماسك والانسجام، من دون أن يجد أدنى غضاضة في الاعتراف بأنه تصفح العمل الإبداعي على عجل، وأعد وريقة عنه وهو في الطريق. حقا إنه لمنتهى الاستخفاف بوظيفة النقد، ومسؤوليات الناقد.
إن القراءة الموسومة بالعاشقة قراءة يعوزها الأساس العلمي المتين، ولذلك يضعها البعض على طرفي النقيض من القراءة العالمة، غير أن هذا لا يعني إطلاقا تسويغ تقديمها بالصورة الشوهاء التي تقدمت، إنه قراءة لا تخلو لدى كثير من النقاد من حس نقدي ذاتي يسعفهم على قراءة متون إبداعية قراءة فيها من بذل الصدق والجدية، ما يجعلها لا تخلو من إمتاع وفائدة.
وبناء على ما تقدم من ملاحظات يمكن القول إن الساحة النقدية أضحت اليوم تعج بنقاد يعولون على المنطلقات النظرية وحدها، أو يطمئنون إلى حسهم النقدي وكفى، وهؤلاء وأولئك لا يمكنهم الارتقاء لا بالنقد ولا بالإبداع الأدبي، والمطلب الملح هو تعزيز حضور الناقد الثاقب الرصين الذي لمحنا إليه في استهلال هذا المقال.

٭ كاتب من المغرب

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى