شاكر خصباك: لم انتفع نهائياً لا من العلم ولا من الأدب

( الجسرة )

*أحمد الأغبري

قبل أن يظهر شاكر خصباك (مواليد 1930) عالم الجغرافيا العربي البارز في سبعينيات القرن الماضي كان قد ظهر في الأربعينيات أديباً حقق ظهوراً وحضوراً قوياً أصبح معه من الأسماء الأدبية العراقية المرموقة عربياً، وظلت كتاباته الأدبية متدفقة وفق رؤية تجديدية، وفي سياق مشروع فكري مناهض للاستبداد، وهي المواقف التي زجّت به في المعتقل، وتسببت بعزله من عمله الأكاديمي غير مره؛ ما أضطره لمغادرة العراق، محققاً نبوغاً في القصة والرواية والمسرح والنقد، وتميز في الرواية، التي أصدر منها (15) رواية من أصل (35) عملاً أدبياً صدر له حتى اليوم، ومثلها ـ تقريباً- مؤلفات وترجمات في علم الجغرافيا، ومعظمها صدر في صنعاء؛ هذه المدينة التي أقام فيها أكثر من 25 سنة، وغادرها، قبل فترة قصيرة، إلى الولايات المتحدة الامريكية… هنا حوار القدس العربي معه :

الغياب

■ ما أسباب غيابك عن الساحة الأدبية؛ فعلى الرغم من تميز وغزارة إنتاجك لم تحظ إصداراتك باهتمام كاف من الإعلام والنقاد؟
□ عندما كنتُ شاباً صغير السن كنت اسماً معروفاً وذائع الصيت أكثر مما أنا عليه الآن، والسبب هو الجو الأدبي؛ ففي أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات كان اسمي معروفاً على نطاق واسع في الوسط الأدبي… بدليل أن سهيل إدريس عندما أراد أن يصدر مجلة «الآداب» طلب مني أن أكون عضواً في هيئة التحرير، كان ذلك في1952م تصوَّر انا كنتُ حينذاك عضو هيئة التحرير مجلة «الآداب» التي أصبحت في ما بعد مجلة معروفة جداً، وهذا معناه أنه كان لي من السمعة الأدبية الكثير.
■ ولم حصل ما حصل من الغياب الإعلامي لاحقاً؟
□ المشكلة كما عبر عنها عبدالعزيز المقالح، وهي أنني في ما بعد الستينيات أصبحت أستاذاً للجغرافيا، وكان من الضروري بالنسبة لي أن أحقق نجاحاً متميزاً في مجال تخصصي الأكاديمي. وفي الحقيقة إنتاجي الجغرافي واسع جداً لدرجة أنني أصبحت من المعروفين جداً كأستاذ للجغرافيا في العالم العربي، ترجمة وتأليفاً. واستطيع أن أقول لك إنني أكثر أستاذ جغرافيا عربي ترجم أمهات الكتب الجغرافية العالمية للغة العربية، واعتبر هذا خدمة مهمة للغاية للجغرافيا العربية في ظل محدودية الترجمات الجغرافية العربية، حيث وضعتُ نصب عيني أن انقل أمهات الكتب الجغرافية عن اللغة الإنكليزية للغة العربية، والحمد لله بلغت الكتب المترجمة 14 كتابا الإضافة إلى أن لي مثلها مؤلفات في الجغرافيا، وأشهرها الكتب التي ألفتها عن الأكراد والمشكلة الكردية…

المسألة الكردية

■ لنتوقف عند هذه النقطة… من أين انطلقتَ في تبني مواقفك تلك من مشكلة الأكراد خصوصاً وأنت عربي وأعلنتها في مرحلة سياسية عراقية مبكرة مطالباً بالحكم الذاتي؟
□ في الحقيقة أنا فكرتُ أن أخدم بلدي؛ فبحثتُ في وقت مبكر عن حل للمشكلة الكردية حقناً لدماء العراقيين؛ فأصدرتُ كتاب «الكُرد والمسألة الكردية» وطالبتُ فيه إعطائهم الحكم الذاتي حلاُ للمشكلة؛ فأنا رجل عربي وباحث وكاتب أعرف جيداً انه عندما توجد أقلية يصبح هناك نوع من الغمط لحقوقهم من قبل الأكثرية؛ فرأيتُ حل المشكلة سلمياً، خصوصاً أن العراق حاول حل المشكلة من أوائل العشرينيات إلى غاية التسعينيات بالحرب ولم ينجح، وخسرنا في ذلك الكثير من أبنائنا، لذا طالبتُ بحلها سلمياً؛ فالأكراد ليسوا عرباً، وهذه مناطقهم منذ آلاف السنين، واقتضت الأمور بعد الحرب العالمية الأولى أن يكونوا جزءاً من العراق، أما قبل ذلك فكانت هذه المناطق تحت الحكم العثماني، وبالتالي يجب أن نعطيهم حقوقهم داخل العراق من خلال الحكم الذاتي، أما الانفصال فليس في صالحهم؛ لأن وجودهم مع العراق أفضل لهم، خاصة في الوقت الراهن، وهم يعرفون هذا الكلام وكلهم مؤمنون به.
■ عوداً على بدء هل أفهم أن تخصصك الأكاديمي الجغرافي أسهم في تغييبك عن الأضواء أدبياً؟
□ تخصصي الجغرافي لم يبعدني عن تجربتي الأدبية؛ فكتاباتي الأدبية متواصلة وبلغت اليوم (35) عملاً ما بين مسرح وقصة قصيرة ورواية ونقد.
■ على الرغم من ذلك فإن الإعلام والنقاد لم يتنبهوا لهذه الأعمال لدرجة ربما لا يعرف عنها الكثير … فما الأسباب التي أخذتك من أضواء الإعلام؟
□ الإعلام لا يأتي هكذا؛ إذ لا بد أن تكون لديك علاقاتك واتصالاتك…ومن كل هذه العوامل يأتي إليك الإعلام…كما إن اليمن مسؤولة عن هذا الموضوع؛ لأنني امضيتُ فيها 25 سنة وكتاباتي الروائية معظمها صدرتْ في صنعاء، ونطاق النشر هنا ضيق، حيث لا يمكن أن تظهرْ وتصل إلى القارئ العربي ويعرفها العالم.
■ لكن كان بإمكانك، وأنتَ في صنعاء، نشرها عبر دور نشر عربية في بيروت أو القاهرة؟
□ ما نشرتهُ عبر دور نشر عربية لقي حظه من الأضواء، وأجدها اليوم في شبكة الإنترنت… أي أن هذه الأعمال التي نُشرت في بيروت صارت معروفة، حتى أن بعضها ترجموها للعبرية ونشروها في إسرائيل مثل «حكايات من بلدتنا» و»السؤال»؛ لأنها نُشرت في بيروت، بينما البقية نُشرت هنا. الآن أحد النقاد العراقيين اطَّلع على أعمالي الكاملة وأخذ يكتب متسائلاً متى ننصف شاكر خصباك؟ الآن بدأوا يعرفون شاكر خصباك وبدأوا يكتبوا عنه؛ لأنني كنت معزولاً بالنسبة للعراق وبالذات في عهد صدام، حيث كان اسمي لا يرد إطلاقاً؛ لأني كاتب عن ايلدكتاتورية. أنني اعتبر نفسي كاتبا جريئا للغاية مع العلم أنني غير شجاع؛ فأنا فعلاً تحديتُ أكبر طاغية في العالم العربي، وهو صدام الذي لم يسمح لأحد أن يعارضه أو يسيء له، بينما تناولته في كتاباتي مثل «أوراق رئيس» و «الديكتاتور»، التي يُفهم منها أنه المقصود، بينما هي ترمز لكل رئيس طاغية.

البداية

■ كتبتَ القصة والرواية والمسرح والنقد والمذكرات، لماذا لم تكتب الشعر وأنت من عائلة كان لها من الشعر والشعراء ما يكفي لتحفيزك نحو هذا الميدان؟
□ لا أخفيك فانا قبل كتابة القصة بدأتُ أميل للشعر؛ لأن خالي كان شاعراً كبيراً حينها، وكان يلقب شاعر ثورة العشرين وهو الشاعر محمد مهدي البصير، ومن الطبيعي أن أميل للشعر، لكن عندما ذهبتُ إليه بقصيدة كتبتها فإذا به ينهرني ويقول: «ما لكَ والشعر، إهتم بدراستك « فتكونت لديَّ من حينها عُقدة تجاه الشعر.
■ وكيف اتجهتَ نحو القصة وبدأتَ النشر؟
□ البدايات كانت في المدرسة الابتدائية، وكان لمجلة «سمير» ولأخي الكبير معلم التاريخ، الذي كان يجلب لي كتابات للأطفال منها كتابات كامل الكيلاني، إسهام في ميلي نحو القصة، حيث بدأتُ أهتم بها، ومن ثم أخذتُ أكتبها وتحديداً بدأت بكتابتها في سنة خامسة في المرحلة الابتدائية، وكنتُ أعرض ما أكتب على المدرس في المدرسة، وكان يشجعني؛ فواصلتُ الكتابة، وخلال فترة بدأت أنشر إنتاجي وتحديداً في سنة ثانية في المرحلة المتوسطة، وفي سنة ثالثة من المرحلة المتوسطة بدأتُ أنشر في نطاق واسع، وفي الثانوية أصبح اسمي من الكتاب المعروفين في العراق والعالم العربي، حتى أنني صرتُ أنقد النتاجات القصصية… ونشرتْ لي مجلة «الرسالة» عدداً من المقالات النقدية، منها كتابات عن محمود تيمور وكتابات عن نجيب محفوظ نشرتها في مجلة «البطحاء» عام 1946، وبشرتُ فيها بتجربة هذا الكاتب العربي الكبير وغيره من الأدباء الذين أصبحوا فيما بعد من كبار الأدباء العرب، وربطتني بهم – لاحقاً- علاقات صداقة منهم نجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحار ومحمود تيمور وعلي أحمد باكثير. أنا في الحقيقة في مرحلتي الإعدادية والثانوية كتبتُ في الأدب قصة قصيرة ونقدا، ونشرتُ لأول مرة في نطاق العراق، ثم في نطاق الوطن العربي، من خلال المجلات الأدبية في مصر ولبنان، وخلال ذلك تعرُّفتُ إلى عدد من الأدباء مثل محمود تيمور ونجيب محفوظ وسهيل أدريس وغيرهم..
■ و كيف بدأت علاقتك معهم؟
□ بسبب نقدي لنتاجاتهم الأدبية، حيث استرعى انتباههم ما كتبته؛ فتواصلوا معي، واستمرت علاقات التواصل في ما بيننا عبر المراسلات، وعندما أنهيتُ الدراسة الثانوية، وحققتُ معدل نجاح مرتفعا تم وضع اسمي ضمن البعثة العلمية، ولأنني حققتُ أعلى درجة في اختبارات الثانوية في مادة الجغرافيا فقد كان الجغرافيا هو التخصص المتاح لي في الابتعاث، وقد خُيِّرت بين مصر وأوروبا فاخترتُ مصر لصلاتي بالأدباء المصريين. ويومها لم تكن عندي فكرة عن الجغرافيا سوى ما درسناه في الكتب عن المدن والعواصم والبلدان، لكن في ما بعد ظهر لي أن الجغرافيا علمٌ كبيرٌ وواسع ومهم جداً، وليس بعيداً عن اختصاصي وتجربتي الأدبية.
■ يستغرب الكثير مما حققته من نجاح كبير في كلا المجالين جغرافياً وأدبياً؟
□ كثيرون يستغربون ولا يصدقون، وهناك طرفة حدثت معي عندما كنت رئيساً لقسم الجغرافيا في جامعة صنعاء، حيث جاءني أستاذ سوري وسلَّم لي مقالا لنشره في مجلة كلية الآداب، وسألني: هل تعرف أديبا اسمه شاكر خصباك؟ فقلت ماذا تقصد؟ فقال: هناك أديب له اسم هو اسمك نفسه (شاكر خصباك) فقلت له: هو أنا فقال: لا أنت جغرافي وهو أديب أقرأ له منذ كنت في بداية حياتي، عندما كان ينشر في مجلة «الآداب» اللبنانية في عام 1946 حيث كنتُ، وأنا طفل، معجباً به وما زلت. فقلت له: أنا شاكر خصباك الأديب. فقال: غير معقول! فقلت له: سواء كان معقولاً أو غير معقول فأنا شاكر خصباك… وفعلاً هناك ناس يتصورون أن كاتب هذه الأعمال الأدبية المنشورة في ثمانية آلاف صفحة هو نفسه الذي ينشر كل هذه الكتب في الجغرافيا.

التفتح والحضور

■ لو عدنا للبدايات… ما هي العوامل التي كانت وراء تفتحك المبكر والواعي على عالم الكتابة الأدبية وبشكل حققتَ ظهوراً سريعاً وحضوراً واسعاً وتطوراً لافتاً؟
□ أولا: كتاباتي ليست مبنية على ثقافة عادية؛ لأنني في فترة من فترات حياتي قرأتُ الآداب العالمية على نطاق واسع، وأغرمتُ جداً بالأدب الكلاسيكي، خاصة أدب أنطوان تشيخوف فأنا أول من بشر بأدبه عربياً، بعد أن تأثرتُ بمسرحه وقصصه، وكنت في تلك الأيام خلال دراستي العليا في لندن قد جننت به، وما زلت باعتباره أفضل من كتب القصة القصيرة؛ فتشيخوف متميز كثيراً وإن كانت تراجمه للعربية ليست في مستواه، لذا فقد قرأته بالإنكليزية، وكذلك قرأت دستوفيسكي وتولستوي وغيرهما… وخلال فترة معينة كرست حياتي للقراءة على شكل واسع للأدب الإنكليزي والأمريكي والإيطالي بما فيه المسرح قرأته بشكل واسع، وبعد ذلك صرتُ من عُباد المسرح وشغلتني المسارح خلال إقامتي في لندن.
■ على ذكر المسرح؛ نجدك في كتاباتك المسرحية تكتبْ المسرح للقارئ أكثر مما هو لخشبة المسرح؟
□ نعم أكتبُ المسرح للقارئ، وإن كنتُ غير معترض على تمثيلها، إذا استطاع المخرج أن يبلورها للتمثيل ويمسرحها أكثر؛ لأنني أكثر ما أكتب للقارئ؛ فانا منذ بدأتُ أكتب المسرح تأثرت بتشيخوف حتى إنني كتبتُ عن أدبه في عام 1954…
■ كان ذلك عن علاقتك بالأدب العالمي فماذا عن الأدب العربي…؟
□ استوعبتُ الأدب العربي وقرأتُ الكثير منه، وقد ساعدني على ذلك في طفولتي افتتاح مكتبة عامة في مدينتي (مدينة الحِلة)؛ لذا فقد كنتُ منذ سنة رابعة ابتدائي قد بدأتُ القراءة المُهِمة؛ فكنت أخرج من المدرسة وأذهب للمكتبة يومياً، وفيها كل الكتب للأدباء العرب، فقرأتُ الكثير، ولذا اعتبر مكتبة الحِلة أستاذي الحقيقي؛ فهي التي جعلتني ألزم القراءة.
■ وكيف تبلورت رؤيتك للنص موضوعاً يحاكي الواقع بإنسانية عالية وتقنية لها مع الكثافة والاختزال حكاية خاصة؟
□ تأثرتُ في كتاباتي الأدبية بمحمود تيمور كقصة، ولكن هناك فضل كبير للمجلة التي كان يصدرها الزيّات مع مجلة الرسالة في أواخر الأربعينيات؛ لأنها كانت تنقل روائع الأدب الغربي للأدباء العرب …فانا استفدتُ كثيراً من هذه المجلة في التعرف إلى أدب كل الأدباء المشهورين، من حينها بدأتُ ألتهم الأدب العربي، وبعدها درستُ اللغة الانجليزية وبدأتُ قراءة الأدب العالمي باللغة الانجليزية …

إنسانية الأدب

■ من أين استمديت رؤيتك الواقعية في نصوصك وتبني مواقف المظلومين والمقهورين و التصدي لكل أشكال السلطة المستبدة ؟
□ منذ بدأتُ الكتابة وأنا ألتزم قضايا المظلومين والمقهورين ولا أعرف لماذا؟! خصوصاً وأنا من عائلة ميسورة، لكن لا أعرف لماذا عواطفي مع الناس المسحوقين منذ بداياتي وحتى الآن، لذا أنا استغرب أسباب ودوافع توجهي ضد السلطة المتعسفة؛ فانا متبني هذه المواقف في قصصي الأولى ومستمر على هذه المواقف حتى اليوم، أي أنني لم أغير مواقفي … كما إنني منذ الطفولة وأنا أجد نفسي على اليسار؛ لأن اليسار معناه إنصاف المظلومين والطبقة المسحوقة، حتى أنني بسبب كتاباتي هذه من مرحلة البداية أصبتُ بشيء من الأذى مرتين وعُزلت من الجامعة، في الوقت الذي كنت فيه لا انتمي لحزب سياسي، لكن لي مواقفي التي لا أملك غيرها، فمثلاً أنني كنت جريئاً وكتبتُ وقلتُ أعطوا الأكراد حكم ذاتي في وقت كان هذا الكلام من المحظورات وعندها فهموا هذا الكلام بشكل مختلف…كما أن الواقعية في الخمسينيات كانت هي الاتجاه السائد؛ لأنها تُقترن بالدفاع عن المسحوقين، وبالنسبة لي ليست مسالة واقعية، ولم أفكر يوماً أن أكتب واقعية ، لكنني لم أؤمن من البداية بالأدب الغامض؛ فأنت عندما تريد أن يقرؤوك الناس فأنت لابد أن تكتب أدباً واضحاً؛ فالمسألة ليست مسألة واقعية؛ فأنت تكتب أدب إنساني، ولذلك هو أدب جاد …
■ وهل، لهذا السبب، تخلو رواياتك مما يصفه البعض بإغراءات الكاتب للقارئ كالكتابة عن الجنس مثلا؟
□ أنا في الحقيقة، منذ البداية، ابتعد عن الكتابة في الجنس، واعتبر كل هذه الإغراءات تملق للقارئ، وإن كان الأدب السائد اليوم هو هذا الأدب…أنا منذ البداية لا أميل إلى هذا الاتجاه وتصوَّر وأنت تقرأ رواية «الخاطئة»، وهي رواية أتحدث فيها عن مومس و دار بغاء، لكنها رواية راقية وبإمكانك أن تعطيها لأي فتاة لتقرأها دون أن تجرح عواطفها…لذا أنا اعتبر هذا النوع من الأعمال هو قمة النجاح لأن الإنسانية فيها عالية.

الاختزال والكثافة

■ وماذا عن تكثيفك للنص لدرجة أن روايتك لا تصل إلى أكثر من مئة صفحة …؟
□ أنا أكتب رواية مركزة جداً لا يمكن أن تحذف منها سطراً واحداً؛ لأنني لا أؤمن بروايات الثرثرة والكلام الفارغ، ولهذا رواياتي مركزة في مئة صفحة أو ثمانين صفحة…لأنني اعتقد أن التركيز في هذا العصر مهم جداً، فالناس لم يعدوا مثلما كانوا في القرن التاسع عشر يقرؤون روايات في ألف وخمسمائة صفحة…أنا عندما أكتب الرواية وتظهر في ثلاثمائة صفحة أظل أحذف إلى أن تصير بهذا الحجم المركز في مئة صفحة وأقل حيث لا يكون فيها مجال للحذف…وربما تأثرت في هذا الجانب بتشيخوف حيث ظل مُصرِّ ألا يكتب رواية طويلة. واعتقد أن القصة الطويلة ملائمة للعصر الراهن؛ فلم تعد القراءة الطويلة متاحة للقارئ؛ لأنه لم يعد لديه وقت.

المجلات الأدبية

■ صرتَ اليوم في العقد الثامن – ربنا يمد في عمرك- لكنك ماتزال متقد النشاط في الكتابة متميزاً بغزارة في الإنتاج…ما سر استمرار هذه الغزارة ؟
□ الحقيقة إن ممارسة الكتابة عندي هي أقرب للهواية والرغبة الشخصية … ولمزيد من الحقيقة فأنا لم انتفع نهائياً لا من العلم ولا من الأدب لا في حياتي العملية ولا غيرها… وإن كنت لا أحب المناصب، لكن عملياً تورطتُ تماماً؛ فمرتين عُزلت من الجامعة، ولم انتفع نهائياً، والآن هناك من صاروا مشهورين ويكسبوا من كتاباتهم، لكني لا أرغب في كل ذلك… ويكفيني ما أجده من تقدير القراء على شبكة الانترنت وشهاداتهم في تجربتي، وخاصة في العراق، على الرغم أنني تركت العراق قبل 25 سنة…
■ لنقف في نهاية هذا الحوار أمام تجربتك مع المجلات الأدبية العربية …؟
□ علاقتي بالمجلات الأدبية بدأت مبكراً، وبدأت العلاقة القوية مع مجلة الآداب البيروتية، التي كان يصدرها سهيل أدريس، حيث اختارني عضواً لهيئة تحرير المجلة، وبعدها كان لي علاقة بمجلة صدرت العراق عام 1953م واسمها الثقافة الجديدة ومازالت تصدر حتى اليوم، وكانت وما تزال تمثل الحزب الشيوعي العراقي ،لكن أنا لم أكن أعرف يوم ذاك عن ذلك شيئا…وعندما صدرت أرادوني أن أكون المسئول الأدبي، وفيما بعد اكتشفتُ أنها للحزب الشيوعي السري، و يبدو أن الحكومة كان لديها فكرة، لكن لم يكن لديها برهان، وبالتالي مع صدور أول عدد ،والذي كان لي فيه قصة وكنت المسؤول الأدبي وقدمت فيه للمجلة – حينها – عبد الوهاب البياتي، والذي لم يكن، حينئذ، شاعراً معروفاً، حيث كان زميلي مدرساً في المتوسطة، بينما كنت حينها أديباً معروفاً، وهو لم يكن قد اشتهر بعد…وبخصوص المجلة فعندما صدر العدد الأول فوجئنا بالحكومة تصادر العدد وتلغي الامتياز؛ ففكرنا بمجلة بديلة فأصدرنا مجلة باسم الثقافة الحديثة، وأيضاً صادرتها الحكومة ففكروا بحل آخر؛ فاقترحتُ عليهم إصدار كتاب شهري… وكان العالم حينئذ يُحيي ذكرى رحيل أنطوان تشيخوف؛ فاقترحتُ عليهم أن أصدر لهم كتاب عن تشيخوف وأدبه وترجمه لقصصه، وفعلاً في أول شهر صدر الكتاب في مرور خمسين عام على وفاة تشيخوف…بعد ذلك بدأت الحكومة تقبض على المحررين وهرباً من الحكومة سافرتُ إلى بريطانيا، وهناك نلتُ الدكتوراه، وبعدها رجعتُ إلى العراق في عام 1958م وعُينت أستاذاً في الجامعة…وصرتُ فيما بعد عضواً في اللجنة المركزية لاتحاد الأدباء العراقيين مع الجواهري وغيره، وأصدرتُ في هذه الفترة مجموعتي القصصية «حياة قاسية»… والحقيقة كنت كتبتها قبل ذلك، لكنها لم تنشر إلا في عام 1959م، وخلال تلك الفترة أصدر الاتحاد مجلة فساهمت فيها، وحينها بدأتُ أكتب للمسرح فكتبتُ «بيت للزوجية»، وبعد ذلك انشغلتُ بالعمل الإداري، حيث عُينت نائباً لعميد كلية الآداب حتى 1962م، وصارت في عام 1963م حركة البعث؛ فعُزلت من الجامعة، وسجنت لمدة ستة شهور، مع العلم إنني لست شيوعياً… وعندما خرجتُ من المعتقل اتصل بي رئيس جامعة الرياض الدكتور عبد العزيز الخويطر، وكان صديقي في لندن، وطلب مني أن أعمل لديهم في جامعة الرياض؛ فذهبت ودرَّست في الجامعة من عام 1964 حتى عام 1968م، وهناك كان الوضع معزولاً عن المجلات، لكني أخرجتُ عملين في أخر الجرأة: رواية «الشيء» و رواية «الحقد الأسود» التي أسميتها لاحقاً «السؤال»، وتناولتُ فيهما التعذيب كاتهام للفترة التي جاء فيها «البعث»…بعد تلك المرحلة رجعتُ إلى الجامعة في العراق في عام 1969 قبل عودة البعث في المرة الثانية…عموماً معظم كتاباتي تناولت فيها معاناة تلك الفترات، حتى أنني أول من كتب عن السجون في العراق، وأُعد رائد أدب السجون في العراق، وكنت أول من تحدث عن أدبه، بينما جاء عبدالرحمن منيف بعدي؛ لأني بدأتُ في العام 1966م؛ فكتبتُ عن المعتقلات والسجون، وكانت كتابات جريئة، لكن عندما جاء البعث في المرة الثانية لم يحاسبني عليها.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى