«أكواريوس» لكليبير ميندوسا فيلو: البرازيل ولحظة الديموقراطية المسروقة

( الجسرة )

*زياد الخزاعي

برازيل المخرج كليبير ميندوسا فيلو ليست بخير، برغم استعادتها ديموقراطيتها منذ العام 1985. اليوم، تواجه البلاد مأزقاً سياسيّاً محتدماً بين أنصار الرئيسة اليسارية ديلما روسيف ومعارضة تتهم حكومتها بإشاعة فوضى اقتصادية، وتعميم حالة إنسداد سياسيّ. يتربّص اليمين للإطاحة بنظام منتخب، فيما تحصّنت الإرادات الشّعبية لردع خطف السلطة. مشهد كالح وخطير، سوّغ لفريق فيلم فيلو رفع شعارات ندّدت بـ «الإنقلاب المرتقب»، قبيل عرضه الرسمي في الدورة 69 لمهرجان «كانّ» السينمائي، أيار 2016. أشهرها كانت عبارة «سنقاوم»، ردّ الحاضرون عليه بتصفيق تضامنيّ مدو. لم يكن هذا الفعل استعراضاً إنما هو إستغلال جماعيّ مبرر ومدروس لمنصّة إعلامية دوليّة وضاغطة وذات تأثير دعائي لا مثيل له، من أجل رفع إنذار «إبداعيّ» ضد إستحواذ «مرتزقة» على برازيلهم. لم يكن إهدار هذه الفرصة عملا حكيماً. لذا، فإن تسييّس العرض الدوليّ الأشهر لشريط فيلو الثاني «أكواريوس» (140 د) أصبح سابقة لاتينية تحريضيّة، ودعوة لوأد مغامرة فادحة قبل وقوعها.
عمل متأنق
لا خلاف بأن فيلو (مواليد العام 1968) أنجز عمله المحكم والمتأنق قبل الأحداث الأخيرة، بيد أن تلميحاته السياسية وتبطيناته الإيديولوجية جلّية وسليطة وغير مجاملة حول مصير “الديمقراطية الشابة” كما ينعتها. فصّلافة البطلة كلارا – وهي جدة ستينية العمر – ضد شركة مضاربات عقارية تسعى الى «سرقة» شقتها البحرية، ليست سوى تورية حكائية لنهب آخر يستهدف بلداً بحجم قارة. كما أن ابتلاءها بداء السرطان وخسارتها لأحد ثدييها بسبب انتشاره، جعل من المرأة أقرب الى ضمير يتعرض الى محاولات بتر وخيانة وترهيب وخداع. هل كلارا وحيدة أم مستوحدة؟ صفتان غير واردتين في كينونتها. انها كائن على قدر هائل من بأس شخصيّ وحرّية عميقة وطلق عاطفي هادر ونشوات مستعادة لا تخجل من مواقعاتها الجنسية ولذاتها. كائن ملتزم بثقافته ومتذّوق لفنون أمته (خصوصا الموسيقى التي احتفى بها الفيلم). كائن مبادر، لا يهادن بشأن حقه، برغم أن مخاوف تنتابه بعدم الأمان. كلارا واضحة الرؤيا بشأن طبقيتها ونخبويتها ورومانسيتها التي تقودها الى مقارعة مَنْ يسعى الى اختراق عالمها الشخصي وطمأنينيته وتاريخه وأناسه.
كلارا ليست شخصية سينمائية مختلقة أو مرمزة. حسب المخرج فيلو، هي إبنة مدينة تقطن في بناية. صنوان لشخصيتها. تخوض من داخل شقتها معركة ضروس ضد كارتل تجاريّ طماع وتهديديّ. هذا خطّ نارها الأول، ما تتبعه من خطوط وأفلاك درامية لاحقة إنما تتقاطع حول عالم جدرانها الأربعة قبل أن تُعظّم من مساحته وقياساته وسطوحه وأبوابه ونوافذه، لتصبح دليلاً يقود مشاهد الفيلم نحو عقدة «إنتهاب» يحاول المرابيّ جيرالدو وإبنه عبرها إقناعها ببيع المُلك، باعتبارها قاطنة أخيرة ووحيدة في بناية من طابقين تحمل أسم «أكواريوس»، يعود تاريخ إنشائها الى حقبة الأربعينات، تقع عند شاطئ بحري بمدينة هسيفي، يشهد هجمة إستثمارية واسعة. هذه مواجهة بين سكينة إنسانية وشره مؤسساتي. بين رباطة جأش امرأة فريدة الكيان وتآمر رأس مال لن يسمح بهزيمته. بين مشيئة فرديّة يكمن سلاحها الوحيد في اللّجاجة وتماديها لمجابهة أهل طمع شديد، يملكون بدورهم دسائسهم وتوريطاتهم.
رغبات نارية
نقابل كلارا خلال أزمنة مختلفة، موزّعة على 3 مقاطع، كشابة فتيّة ولاحقا كأم لثلاثة أولاد وأخيرا كجدة. في الأولى، نتعرف على مواطنة حماسية وعائشة لنزعاتها ككائن صحيّ تتملكه روح لاتينية فوّارة وناريّة الرغبات. في الأخيرة، نرافق يوميات سيدة صحافية وناقدة موسيقية متقاعدة شاءت الحياة أن تجعلها في انفراد عائليّ. لن تتركها أسرتها أسيرة روتينها. هناك دائما زحمة بشر في حياتها، من أحفادها الى صويحباتها إلى زملاء قدامى وعشاق أزاحهم الزمن عن طريقها، مرورا بعلاقاتها العابرة وانتهاء بمَن يحاصرونها لكن ما ينقصها بشدّة هو حصانة حياة. ما نهجسه في زمنها الحالي، أنها مكشوفة أكثر من اللازم لغزوات خارجية وخيانات عهد ومحاولات إيقاع خؤونة من شياطين «متطلبات السوق» حسب مخرج «ضجيج الجيرة» (2012). لا تراعي نوايا الخبث والإختراقات منطقها وسلامها الداخلي وإستقلاليتها، كما لا تلتفت إلى قانون الدولة ومطبقيّ عهودها، فهذان عنصران مرجومان بأسلوب مثير للشكوك. ما يتبقّى لها هو خوض منازلة بدت للوهلة الأولى غير متكافئة لكننا نفاجأ بانقلابها لصالحها، ليس بسبب حظوظها إنما لوجود بشر ما زالوا يرهنون نصاعاتهم الى طويّات حيّة. أتى هؤلاء من جغرافية أخرى وطبقيّة متناقضة. رجلان رثّان يقرعان بابها لإنذارها في تورطهما بدسيسة جيرالدو وإبنه حيث «زرعا» العمارة الخالية بمستعمرات نمل أمازوني قاتل ينخر كل شيء. هذه طريقة طبيعية ونظيفة لا مجال فيها لظنّة، تمت بعد فشل محاولة سابقة أكثر نزقاً وأقل إستيحاء، رتّب الإبن دييغو لزعرانه فيها جلسة جنس جماعيّة فاجرة في شقة تقع فوق سكنها. في مشهد صاعق ومثير للذعر صوّر كل من بيدرو سوتيرو وفابريسيو تاديو بتفصيل بارد وببطء إستفزازيّ المسارات المخيفة لجحافلها الدؤوبة وهي تنبش بلاءها الذي لا يمكن تعطيله.
في فطنة سينمائية، خدع فيلو مشاهده الذي خمّن إن البطلة الملتاعة ستستنجد بالسلطة ورمز سطوتها إلا أن ما رتّبه في المشهد الختامي كان أبلغ من مباغتة وأكثر من ذهول. ان كابوسها لا يندحر إلا عن طريق خلق تماثل أكثر عنفاً. عليه، تقتحم مؤسسة «المرتزق» العقاريّ وترمي بـ «عيّنة» من ذلك النمل فوق مكتبه. على النخر الحقيقي أن يبدأ من جذر فساد «الإدارات العدوانية». عادت القوّة الموازية لفيلم «أكواريوس» بإقتدار الى حضور فاتن وأداء مهيب للممثلة سونيا براغا (مواليد عام 1950). بدا أن عناصر الحكاية مكتوبة لموهبتها التي انعكست بألق ملحوظ على زملائها الآخرين حيث دارت شخصياتهم وأدوارهم حول كلارا بوضوح، ولعلّ أبلغها مشهد الشاطئ مع زوارها، وإمتعاضها من تكريس فصل طبقيّ مخبوء يخطف مدينتها الساحلية التي يعود تاريخها إلى 500 عام. يمكن القول، ان إشارتها تذهب بعيداً لتشمل برازيلها برّمتها والمتعرّضة اليوم الى خطر عودة فاشية عسكرية نذلة أكثر من أيّ وقت مضى.
زياد الخزاعي
(لندن)

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى