«بيليه ولادة أسطورة».. سيرة قديس معاصر

علي زراقط

يخرج أحد عمالقة كرة القدم إلى الشاشة الكبيرة، مستعرضاً حياته فينتج من ذلك فيلم على قدر كبير من الالتباس. الالتباس في الفيلم هو بين قيمته كوثيقة حكائية تروي سيرة رجل لا يختلف اثنان على دوره الكبير في إعادة تعريف النجومية في عالم كرة القدم، وبين تقديم الشخص نفسه كبطل مطلق، ما يمنع النظرة النقدية أو البحث عن سقطات أخلاقية قد يكون وقع فيها اللاعب قبل أن يصير نجماً أو بعد ذلك.
كتب الشقيقان جيف ومايكل زيمباليست، وأخرجا فيلم «بيليه ولادة أسطورة» بناءً على نوع من السيرة الذاتية لبيليه نفسه، الذي ولد كطفل فقير باسم أديسون أرانتيس دو ناسيمنتو. سيرة اللاعب الذي يعشقه محبو الكرة، مضافة إليها مكونات عالية الجودة من الصورة الضاجة بالحياة التي صنعها المصور ماثيو ليبياتيك (وهو الذي عرف في أفلام Requiem for a Dream و «البجعة السوداء») إلى الموسيقى والمونتاج المتقنين، لتصنع هذه العوامل كلها شريطاً يضمن المكانة التجارية. من هنا يبقى السؤال حول قيمته الفنية والحكائية كفيلم سيرة.
المكانة والكرامة
تبدأ الحكاية مع الخسارة التاريخية للمنتخب البرازيلي لكرة القدم في مونديال 1950، وتستعرض صعود بيليه، إلى مصاف الأبطال معيداً لمنتخب بلاده المكانة والكرامة عند فوزه بكأس العالم 1958. القصة تجمع بين جانبين، فهي في البداية قصة انتقال شاب من طور المراهقة والأحلام، إلى طور تحقيق الشخصية المستقلة والقيادية وصولاً إلى أهدافه، أما الجانب الآخر فيدور حول ارتباط الشعب وقضاياه بكرة القدم وبصورة القائد والملهم.
لا يقدم الفيلم ما لا نعرفه عن بيليه، بل يمكننا قبل أن نشاهده أن نخمّن الأحداث، فمحبو كرة القدم يحفظون تواريخ اللاعبين عن ظهر قلب، فكيف بنا لو كان هذا اللاعب بيليه؟ محبو كرة القدم يحفظون الأهداف، الدقائق التي دخلت فيها، ومن مرر الكرة لمن، وكيف تم تسجيلها، ويستطيعون أن يصفوها بمنتهى الدقة، إلا أن هذا لا يمنعهم من أن يشاهدوها مراراً وتكراراً. اللحظات التاريخية في كرة القدم، كالأهداف الساحرة والمباريات المصيرية، لا تصير مملة أبداً في عيونهم، بل إن معرفتهم بالنتائج تجعلهم أكثر متابعة وحماسة لها.
يبني الفيلم على هذا المعطى، كون الكرة هي سحر من يعرفها، ليتمكن من الدخول إلى قلوب المشجعين. فيستعيد قصة البطل كما يرويها المعلقون خلال المباريات، حكاية اللاعب المصنوعة على طريقة سِير القديسين. طفل يخرج إلى الملعب من رحم الفقر في الأحياء المعدمة، بقدميه الحافيتين يواجه العوز والعنصرية ليصنع المعجزة في إنقاذ البلاد من التمييز ومن ذل الهزيمة. إلا أن بيليه الذي يقدمه الفيلم لم يسقط في الألم، لم يشعر بالحقد، لم يكره أعداءه، لم يشتهِ امرأة جاره، لم يرغب إلا بلعب الكرة. على مدار ساعة وأربعين دقيقة نشاهد بيليه بطلاً، من اللحظة الأولى حتى النهاية.
كليشيهات
الكثير من الكليشهات مضافة إلى صراع سطحي وخارجي، تجعل من الفيلم شريطاً تسويقياً لبيليه كأيقونة، أو كماركة مسجلة، خاصة عندما نعلم أنه شارك في الإنتاج. وما يزيد الطين بلة أن الفيلم ينطق باللغة الإنكليزية، الفيلم ليس مدبلجاً إلى الانكليزية كنسخة دولية، بل إن الممثلين البرازيليين و «بيليه» نفسه الذي يمثل دوره «كيفين دي باولا» ينطق بالانكليزية. الأمر الذي يفقده الكثير من أصالته كشريط تاريخي في البرازيل، ويعطي انطباعاً بأن صانعي الفيلم أرادوه دعائياً أكثر من كونه وثيقة عن الحياة والصراع لأجل الكرة والترقي الاجتماعي والوطني في خمسينيات القرن الماضي.
من اللافت أن معظم الأفلام الروائية التي تناولت كرة القدم أخفقت في تقديم قيمة سينمائية عالية، على خلاف ما قدّم في رياضات أخرى كالملاكمة، أو كرة القدم الأميركية، وهذا بالرغم من القوة الدرامية العالية التي تحتملها هذه اللعبة، أو ربما بسبب ذلك. واللافت أكثر أن الكاتبين والمخرجين زيمباليست كانا قد قدّما وثائقياً مهمّاً «الثنائي أسكوبار» (2010) الذي يؤرخ لسيرة كولمبيا بين مافيا المخدرات وأبطال كرة القدم في مزيج من الحيوية، عمق المعالجة والنظرة الإنسانية. فما الذي حدث ليخرج «بيليه، ولادة أسطورة» شريطاً ببعد واحد، فيلم إبهار هوليوودي (بالمعنى التجاري) بنكهة برازيلية؟ قد يكون ممتعاً لمحبي الكرة وأساطيرها، إلا أنه لا شك مربك لمحبي الأفلام والسيرة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى