سينما عاطف الطيب المدهشة

الحسين عبد البصير

يعتبر المخرج الراحل عاطف الطيب من أبرز مبدعي الثمانينيات في تاريخ السينما المصرية العريقة. وترجع أصول عاطف الطيب إلى صعيد مصر، وتحديداً إلى جزيرة الشورانية مركز المراغة في محافظة سوهاج، لكنه تربى وعاش في حي بولاق الشعبي الشهير، فعرف ناس مصر الأصيلين عن قرب.

وعشق الطيب السينما منذ الصغر؛ فتخرج في المعهد العالي للسينما بالجيزة. وكان عاطف الطيب أثناء دراسته في المعهد العالي للسينما هادئاً وصموتاً جداً يجلس بالقرب من الشباك وينظر من خلاله ولا يلقى بالاً لشرح أستاذه، كما كان يروي أستاذه رائد الواقعية المخرج صلاح أبوسيف ما جعل أبوسيف يظن أن الطيب ليس ميالاً كبيراً للفن السابع ولا ينتظر منه الشيء الكبير للسينما المصرية. غير أن الطيب «خيّب» ظن أستاذه وأخرج عدداً من الأفلام العلامات في تاريخ السينما المصرية والتي تعد امتداداً لواقعية أبوسيف الرائدة وجعلت من عاطف الطيب أبرز فرسان جيله.

وعمل الطيب مساعداً لعدد من المخرجين المصريين الكبار أمثال شادي عبدالسلام ويوسف شاهين ولعدد من المخرجين العالميين، كما أخرج عدداً من الأفلام التسجيلية قبل أن يتحول إلى إخراج الأفلام الروائية الطويلـة، فأخرج أفلاماً عن أشياء كثيرة أعجبته وأثارته وكأن ذلك نابع من رغبة منه في إخراج أكبر عدد من الأفلام، قبل أن يصل قطار عمره إلى محطته الأخيرة في يوم 23 يونيو/حزيران 1995، فلم يكن أمامه أي خيار آخر.

وفي ذلك اليوم راح عشاق السينما المصرية، وتحديداً سينما عاطف الطيب ذات القيم النبيلة والكبيرة مثل صاحبها، يبكون بشدة على رحيله المبكر بعد عملية جراحية في القلب.

ومن الواضح أن عاطف الطيب ذلك الصامت الهادئ فاجأ الجميع، خلال مساره المهنيّ بعدد كبير من الأفلام المهمة التي أثارت قضايا عدة تريد جيلاً من المخرجين الكبار كي يتصدوا لإخراجها في فترة زمنية طويلة. فقد بلغ عدد أفلامه الروائية الطويلة 21 فيلماً نفذها في عمره الفني القصير الذي لم يزد على 15 سنة، فكأن عاطف الطيب كان ابن موت – كما يطلق أهله في الصعيد على النوابغ أمثاله – يصارع الموت كي ينتج كل هذا العدد الكبير من الأفلام، في صراع مع القدر الذي لم يمهله طويلاً واختطفه من بين أيدينا عن عمر يناهز الـ 47 عاماً في رقم مقارب للعام الذي ولد فيه عام 1947.

وفي أفلام الطيّب، تجسدت قيم النبل والضعف الإنساني وحب مصر والمصريين وأهمية البشر لأنهم بشر فحسب بصرف النظر عن ثرائهم أو مكانتهم الاجتماعية، والإحساس العميق بالمجتمع المصري وقضاياه المتشابكة والحب الكبير لملح الأرض أي فقراء مصر المطحونين. فكانت أفلاماً تتحدث عنا وعن زمننا.

وفي طريقه، أعاد الطيب الشباب لتيار الواقعية في السينما المصرية وحفظه من الاندثار وأضاف لهذا التيار عدداً من العلامات المضيئة على جبين السينما المصرية لا يمكن نسيانها مثل أفلامه: «سواق الأتوبيس» (1983) و «الزمار» (1984) و «الحب فوق هضبة الهرم» (عن رواية نجيب محفوظ) و «البريء» (1986) و «الهروب” (1991) وأخيراً «جبر الخواطر» (1998) ذلك الفيلم الذي مات قبل أن يكمله عن رواية الراحل الكبير عبدالفتاح رزق.

وتمثل سينما الطيب في موضوعاتها المعاني والقيم الصالحة في مواجهة الخسة والنذالة، هي التي راحت تحارب لصوص المال العام، ورموز السلطة الفاسدة والمفسدة، وتتصارع مع الظلم والفساد الذي ينخر في المجتمع المصري، وعلى الجانب الآخر تظهر أفلامه أصالة المصريين وأولاد البلد الحقيقيين.

ورغم أن أفلام الطيب كلها مهمة، فإننـي أعتقد أن فيلمه «البريء» بما يقدمه من قضية حرية التعبير والقهر وتغييب الرأي المعارض للنظام يستحق منا وقفة ضرورية. ويعرض هذا الفيلم بمنتهى الصدق والصراحة ما يحدث للمعتقلين داخل المعتقلات المصرية.

وعلى رغم أنه لم يشر إلى زمن محدد في محاولة للتغلب على الرقابة الصارمة التي تغالط نفسها وتنكر حقيقة ما يحدث، كانت كل الإشارات واضحة كسطوع الشمس في وضح النهار. وكان الفيلم أشبه بالنبوءة. فبعد مدة غير طويلة على إنتاجه خرجت قوات الأمن المركزى في شوارع القاهرة عام 1986 ثائرة لوعيها المغيّب مقتصة لحريتها وإرادتها المسلوبة على طريقتها الخاصة في التعبير عن الغضب بتدمير كل شيء يقف في طريقها.

وأخيراً رحم الله عاطف الطيب جزاء ما أمتعنا به من علامات سينمائية على طريق الحق والحرية والجمال والعدالة والوطنية وعوضنا عنه خيراً.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى