الكلب واختلاف الثقافات في رواية عبدالله بيضا

د.غراء مهنا

في روايته التي صدرت مؤخرًا باللغة الفرنسيةً وتحمل عنوانًا غريبًا هو “اسم كلب” يتناول الكاتب المغربي والأستاذ الجامعي عبدالله بيضا الإختلاف بين الحضارات والثقافات من خلال اللقب الذي يحمله بطل الرواية “دريس ابن كلب” وهذا اللقب ينتمي إلى قبائل مغربية قديمة كانت موجودة في زمن لا يحمل فيه الناس أية أوراق رسمية؛ لا شهادة ميلاد ولا بطاقة شخصية، وكان ذلك قبل الإحتلال الفرنسي الذي قرر أن يستخرج لهم هذه الأوراق الثبوتية، وأن يحمل كل شخص لقبًا.

وفي أثناء إتمام هذه المراسم تشاجر جد دريس مع شخص آخر وتبادلا السباب الذي تكرر فيه ترديد كلمتي: “كلب” و”حمار” فأطلق على أحد المتشاجرين لقب “كلب” وعلى الآخر “حمار” مسبوقا بكلمة “ابن”.

ومرت الأيام وكان لهذا اللقب أثر كبير في حياة دريس بن كلب حتى جاء اليوم الذي أصبحت فيه زوجته على وشك أن تضع مولودًا. لم يرغب دريس في أن يحمل ابنه هذا اللقب فيعاني ما عاناه هو في حياته بسببه خاصة في المغرب البلد العربي الشرقي الذي يحمل فيه الكلب دلالات إيحائية سلبية مثل النجاسة فهو حيوان غير مرغوب فيه، يعامله الناس بقسوة ويرمونه بالحجارة.

ويقرر دريس تغيير لقبه ولكنه يجد أن الأمر صعب، وبعد محاولات يقرر تأجيل ذلك، ويذهب في مهمة عمل إلى باريس، وهناك يجد الكلب يحتل مكانة مختلفة؛ فهو أحد أفراد الأسرة يحيطه الجميع بالحب والحنان.

يزور دريس في باريس مقبرة الكلاب ومعرض فن تشكيلي عن الكلاب ويختلط بأناس يتحدثون معه عن أهمية الكلب في حياتهم، وكذلك يسافر إلى مدريد وينبهر بما رآه وسمعه عن العلاقة بين الإنسان والكلب. وفي بلده المغرب يجد مقبرة للكلاب بناها الفرنسيون، ولكنها أصبحت مكاناً للمخلفات ويجد معرض الفن التشكيلي الذي يصور فيه الفنانون الكلب بشكل سلبي ويرى الناس يضطهدون هذا الحيوان.

وتتابع الرواية عن قرب الكلب في كل مكان يرمز إليه وعلاقته بالإنسان والمشاعر المتبادلة بينهما في كل ثقافة وحضارة؛ الغربية والعربية الإسلامية حتى أن البطل يفكر في ترك بلده المغرب والرحيل إلى بلد آخر. وفي النهاية يقرر البقاء ويشارك في يناء مقبرة تليق بهذا الحيوان الذي يحتفظ به في منزله مع ابنه كواحد من أفراد الأسرة.

نقرأ بين السطور إعجاب الكاتب بالحضارة والثقافة الغربية التي تجعل من حيوان الكلب صديقا للإنسان، له حقوق مثله تمامًا، ويدين المجتمعات العربية التي تضطهد هذا الحيوان ويقرر الاحتفاظ بلقبه ويبقى دريس “ابن كلب” فلم يعد التسم يسبب مشكلة .

تبدو الإشكالية التي يطرحها الكاتب بسيطة: محاولة تغيير اللقب الذي سيحمله المولود حتى لا يعاني ما عاناه الأب، ولكن الموضوع أكبر من ذلك بكثير وهو نظرة المجتمعات المختلفة لحيوان … هل نظرة الناس في المجتمع الواحد للكلب واحدة؟ والموضوع يتعلق أيضًا بالثقافات والديانات والحضارات المختلفة. “ليست لدينا النظرة ذاتها إلى الأمور” هذا ما يؤكده الكاتب حين يقول إن بالمغرب ثلاث فئات من الكلاب:

– كلاب الشوارع الجائعة التي تبحث ليلًا ونهارًا عن ما يسد جوعها والتي يطاردها نوعان من البشر: المسئولون عن الصحة والخدمات الصحية، والمطاعم التي تحولها بعد الشواء إلى طعام لذيذ.

– والفئة الثانية من الكلاب هي التي تربيها الأسر متعددة الأفراد ويصبح الكلب واحدًا من أفرادها يأكل بقايا طعامها وقد يشبع أو لا يشبع مثل باقي الأفراد. وهذه الكلاب حرة في البقاء أو الإختفاء لبضعة أيام تعود بعدها إلى الأسرة أو لا تعود إذا وجدت من هم أفضل منها.

– وأخيرًا فئة الـ “high society ” وهى كلاب أصلية ثمنها مرتفع والاعتناء بها وإطعامها باهظ الثمن، وقد يأتي طعامها من خارج البلاد من أوربا. وقد يرى البعض ذلك سفهًا فكيف يمكن صرف هذه المبالغ على الكلاب في بلد يموت أطفاله من سوء التغذية والأمراض.

وهكذا تنتقد الرواية سلوكيات المجتمع المغربي.

يستعرض الأب في الرواية الأسماء التي يمكن أن يطلقها على المولود والتي لها مرجع ديني مثل بدر (القمر المكتمل) التي تشير إلى غزوة بدر وهي حرب “بين الأسماء” مات فيها “أبو جهل” فكيف يمكن أن يكسب مثل هذا الاسم الذي أطلقه عليه المسلمون حربًا؟ من يتذكر اسمه الحقيقي “أبا الحكم” لما كان يتمتع به من حكمة فهو من أكبر حكماء قبيلة قريش.

ويستعرض الكاتب الأسماء المرتبطة بالدين ولها علاقة بأسماء الله الحسنى: الرحمن، الجبار، الوكيل، البصير، الظاهر، الباطن … مسبوقة كلها بكلمة “عبد” للتفريق بين أسماء الخالق والمخلوق. ثم يستعرض أسماءاً أخرى: عماد، مراد، أنس، بلال، فريد، حسن .. ولكن مجرد ارتباطها باللقب “ابن كلب” سيجعلها مصدرًا للسخرية والتهكم.

ويشغل اختيار الاسم حيزًا لا بأس به في الرواية ولكن بهدف العودة دائمًا إلى اللقب الملعون لإيجاد فرصة لنقد المجتمع والسخرية منه.

يبدو المغرب مجتمعًا متناقضًا في حين يطارد البعض الكلاب ويقذفونها بالحجارة ويطردونها من كل مكان توجد فيه، يربيها البعض الآخر ويكتب آخرون إلى رئيس الحكومة مطالبين بعدم قتل الكلاب والقطط الضالة ويحمل الطلب 145895 توقيعاً ويبدأ بهذه الكلمات: “نحن في بلد إسلامي يجب أن يسود فيه الحب والاحترام بين الكائنات الحية” (ص21) .

وتستعرض الرواية السور القرآنية التي جاء فيها ذكر الكلب مثل سورة الكهف وغيرها.

كلمة كلب مرتبطة بنوع من السباب فهل يتعلق ذلك بالحيوان أم بالكلمة في حد ذاتها؟ ويبدأ الأب، بطل الرواية، سلسلة من البحوث والاستفسارات عن مكانة الكلب وتمثيلاته وما يرمز إليه تسانده زوجته حتى يتخلص من هذا اللقب الذي يلتصق به كجلده ولا يفارقه.

ويبدأ بالعلاقة بين الكلب والإنسان وصورة الكلب الموروثة في الثقافة العربية الإسلامية والفرق بينها وبين صورته في المجتمعات الغربية، ويكتب ذلك بأسلوب ساخر مشيرًا إلى مشكلة الهوية والإختلاف عن الآخر، ومتطرقًا إلى الدلالات الإيحائية لكلمة كلب: الكلب في الديانات والفن والأدب والمجتمع، عند العرب والعجم ،في الأقوال المأثورة والحكم … الخ.

وفى الواقع التعبيرات المرتبطة بالكلب والأقوال المأثورة والحكم تتضمن معنى سلبيًا أحيانًا وإيجابيًا أحيانًا أخرى فعندما نقول: “إنسان طبعه طبع كلب “(إنسان سيء الطبع) وعندما نقول بالفرنسية طقس كلب (طقس سئ) أو يعامله معاملة الكلب (يعامله معاملة سيئة) وقد يرمز الكلب إلى الوفاء والإخلاص، ومن الأمثال الشعبية: “الكلب الذي ينبح لا يعض”، ومن الأقوال المأثورة “الكلاب تنبح والقافلة تسير”.

والكلب في الإسلام واليهودية ليس من المستحب وجوده بالمنزل إلا للصيد وللحراسة، في حين أنه في المسيحية لا يتصف بالنجاسة ويعيش في المنازل كفرد من أفراد الأسرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه أخيرًا حول هذه الرواية: هل هي عن الموروث والمتوارث؟ أم عن الأنا والآخر واختلاف الحضارات والأديان والهويات المتعددة؟ هل هي تدور حول الكلب الرمز والصورة؟ أم هي نقد للمجتمع العربى؟

هي في الواقع كل ذلك مجتمعًا.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى