المراكز الثقافية البديلة في القاهرة … تجدّد روحها

محمود حسني

تعجّ مساءات وسط البلد في القاهرة، هذه الأيام بنشاطات المراكز الثقافية البديلة التي باتت تشكل ما يشبه الظاهرة. فقد بات العثور على عرض سينمائي طويل، أو قصير، أو وثائقي، من السهل جداً في تلك المنطقة المزدحمة، طيلة أيام الأسبوع تقريباً في «مركز سينما بديلة»، أو في «مركز ثقافي مستقل»، أو «مركز ثقافي لبلد أوروبي»، أو حتى في مطعم/مقهى من التي أدخلت عروض السينما الأسبوعية ورفوف الكتب وزوايا حفلات الموسيقى الصغيرة إلى أمكنتها.
«مدرسة الجزويت للسينما» التي تقع قرب ميدان رمسيس، والتي بدأت منذ العام 2007 استقبال 15 شاباً في منحة سنوية لدراسة السينما، تعرض مثلاً، فيلماً كل يوم سبت، في شكل مجاني، يعقبه نقاش نقدي.
ومع ما قامت به «الجزويت» من محاولة لتغيير المشهد السينمائي من خلال هذا البرنامج، بإتاحة بدائل مختلفة عن المؤسسة الأكاديمية التقليدية، ظهرت بالتوازي معها سينما «زاوية» التي تحتل إحدى قاعات سينما «أوديون» الشهيرة في وسط البلد. تركز «زاوية» على عرض الأفلام البديلة والمستقلة غير التجارية، بسعر تذكرة دخول أقل من سعر تذكرة صالات عرض السينما التجارية التقليدية. وشجّع هذا كثيرين من مرتادي وسط البلد على اكتشاف التجربة، وهو ما أضفى تنوعًا وحياة كادت تخفت من المشهد السينمائي المصري.

مراكز ثقافية مستقلة
مخاضات الحركة الشعبية في 2011 التي خاضها الشعب المصري، أثّرت في المشهد الثقافي في شكل مباشر أو غير مباشر. فظهرت مراكز أبحاث غالبيتها سياسية وحقوقية، منها مركز «دال» للأبحاث في حي غاردن سيتي في وسط البلد، الذي كان يهتم بوسائل الإعلام المختلفة. لكن نشاط «دال» أصبح أكثر تنوعًا حين قرر أن يعرض كل أربعاء، وفي شكل مجاني، فيلماً من السينما العالمية بعيدًا عن هوليوود، مُركِّزًا في شكل أوسع على السينما الأوروبية. لم يكن الإقبال على المكان واسعًا في البداية، القاعة تكاد تكون خالية، لكن بعد أسابيع ازداد الحضور في شكل لافت. الأربعاء الماضي، لم يجد كثيرون أماكن واضطروا للوقوف لمشاهدة فيلم زادت مدته عن الساعتين ونصف الساعة.
يقع «درب 1718»، وهو أحد المراكز الثقافية التي تهتم بالفنون في شكل عام، وبالفن المعاصر في شكل خاص، في منطقة مصر القديمة. ومن ميزات هذه المنطقة أنها تتداخل فيها وتتقاطع دروب كثيرة لثقافات مختلفة. فهناك يتجاور مسجد عمرو بن العاص أول مسجد في مصر وأفريقيا، مع «الكنيسة المعلقة» بكل ما تحمله من قيمة تاريخية، وتحيط بهما ورش الحرفيين الذين استطاع المركز أن يكون جزءاً منهم، وأن يجعلهم جزءاً منه، وبهذه الصورة امتزج الأصيل مع المعاصر في مشهد ثقافي لافت، تدريجيًا.
للوهلة الأولى يلفت نظرك المكان بتصميمه التقليدي البسيط، المتآلف جداً مع كل العناصر المحيطة. وتُدهش حين تكتشف أن التصميم التقليدي هو بؤرة لنشر كل ما هو معاصر وحديث من اتجاهات الفن، وفي نهاية المطاف تسفر اللوحة ككل عن تجربة فريدة.
لكن «درب 1718» لم يكتف بذلك، اذ يعرض بصورة دورية فيلمًا سينمائيًا بالتعاون مع المراكز الثقافية الأوروبية، وهو ما جذب الانتباه إليه في محاولة لتوسيع شريحة مرتادي المكان، خارج دائرة الفنانين والمهتمين بالأعمال الخزفية والفخار، الشاغل الأساسي للمكان.

… ومراكز أجنبية
ربما يكون «معهد غوته» الألماني أحد أكثر المراكز الثقافية الأجنبية نشاطاً. يرى البعض الأمر كأنه محاولة «كولونيالية» ناعمة لشغل حيز ثقافي فارغ في أوساط الشباب العربي. لكن الواضح أيضًا أن المركز لا يكتفي فقط بالترويج للثقافة الألمانية على اختلاف أشكالها، بل يفعل ذلك مازجًا إياه بدعمه للإنتاج الثقافي المصري مثل دعم فرق موسيقية شبابية، عرض أفلام مستقلة لشباب عرب… فأسبوع أفلام «معهد غوته» كان دليلاً على كيفية تقديم ثقافتك بـ «نعومة» وفي حضور ليس قليلاً لثقافة البلد القائم فيه.
ربما تكون المراكز الأوروبية الأخرى مثل الفرنسي والإيطالي والهولندي والفلمنكي، أقل حيوية ونشاطًا من «معهد غوته»، لكنها جميعاً تحرص على تقديم عروض سينمائية تنتمي إلى ثقافتها أسبوعياً، تصاحبها ترجمة إلى الإنكليزية. وهو ما يمكن أن يكون سببًا في محدودية الإقبال عليها، أو حتى يمكن أن يكون رغبة من هذه المراكز لجذب شريحة ما من المجتمع المصري والتركيز على تقديم خدماتها لها. الشريحة التي تجيد الإنكليزية، ربما تكون هي القادرة على دفع المقابل المادي لدروس تعلم اللغة!
«صوفي» هو مطعم ومقهى يقع في شقة قديمة ذات أسقف عالية وعمارة تعود إلى فترة الملكية، في جزيرة الزمالك. أضاف «صوفي» الى مساحته رفوفاً تكسوها الكتب وأتاحها للقراءة المجانية في المكان أو للشراء، ثم أدخل عرضًا سينمائيًا أسبوعيًا مقابل مشروب في حدود دولارين تقريبًا.
وكذلك الحال في «ماغنوليا» في جزيرة الزمالك. حيث بدأ المكان نشاطه جامعًا العناصر كلها، ومنها العرض السينمائي الأسبوعي من اللحظة الأولى مضيفًا إليه مساحة للحفلات الموسيقية المحدودة العدد. لكنه لم يكتف بعرض سينمائي أسبوعيًا بل ثلاثة عروض سينمائية (السبت، الاثنين، الأربعاء) مقابل مشروب هو الآخر في الحدود نفسها تقريبًا التي تجدها في «صوفي».
الفكرة نفسها هي الأخرى تكررت في مطعم «روم آرت سبيس» في حي غاردن سيتي في وسط البلد. فبقدوم السابعة مساء، وبخاصة أيام العطلات، قد تجد عرضًا سينمائيًا، أو مغنياً أو فرقة موسيقية مستقلة تقف على مسرح صغير مرتفع قليلًا في أحد أركان المكان، في محاولة لجذب انتباه أكبر عدد ممكن من الشرائح التي تهتم بالممارسات الفنية في صورتها الأوسع.
ربما تكون اجتهادات المراكز الثقافية هذه، ببثّ عنصر مختلق لجذب عدد أكبر من الجمهور، هي ظاهرة تدخل في صلب تطوير المشهد الثقافي المصري. أو من زاوية أخرى، ربما تكون محاولة من الشباب البحث عن شيء من مظاهر الحياة بعد أن أصابهم إحباط سياسي ليس هينًا، في بلد منهك اقتصاديًا بالأساس. لكن يبقى هذا كلّه محدودًا في نطاق جغرافي ضيق، حيث وسط القاهرة الذي يبدو وكأن «نوستالجيا» لقاهرة لم يعد لها وجود في خضم اللحظة الحالية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى