سركون بولص في «رقائم لروح الكون»

 

تشكل القصائد المترجمة هنا، جزءاً من الكتاب الذي يصدر قريباً عن «منشورات الجمل» بعنوان «رقائم لروح الكون» ويضمّ قصائد لأكثر من 130 شاعرة وشاعرا من العالم (ويقع في أكثر من 600 صفحة)، كان الشاعر العراقي الراحل سركون بولص قد ترجمها في مناسبات عدة. بعض هذه القصائد منشور في صحف ومجلات عديدة، لكن قسماً كبيراً منها ينشر للمرة الأولى. هذا يُكسب الكتاب أهمية إضافية، إذ نكتشف فيه جزءاً من فضاءات سركون التي عمل عليها إلى جانب شعره أي الترجمة الشعرية، والكتاب يندرج ضمن مشروع دار الجمل في إصدار الأعمال الكاملة لبولص، إذ سيعقبه لاحقاً، كل الحوارات الصحافية التي أجراها الشاعر العراقي الراحل في حياته.
سلفيا بلاث

كلمات أخيرة
لا أريد تابوتًا عاديًّا، أريد ضريحًا
بشرائط كجلد نمر، عليه وجهٌ
مدوّر كالقمر، يحدّق إلى الأعلى.
أريد أنْ أتطلّع إليهم عندما يأتون
محتسّسين طريقهم بين المعادن الخرساء،
بين الجذور.
أراهم منذ الآن – الوجوه الشاحبة، البعيدة
بُعْدَ النجوم
إنّهم لا شيء الآن، ليسوا حتّى أطفالاً.
أتخيّلهم بلا آباء أو أمّهات، كالآلهة الأولى.
سوف يتساءلون إنْ كنتُ جديرةً بالاهتمام.
عليَّ أنْ أحلّي أيامي بالسُكَّر وأخمّرها كالفاكهة.
ها إنّ مرآتي تغيم –
أنفاسٌ قليلةٌ أخرى
ولن تعود تعكس شيئًا على الإطلاق.
الأزهارُ فيها، والوجوهُ، بلون الكفَن.

لا أثقُ بالروح. إنّها تهربُ كالبخار
في الأحلام، عبر ثقب الفم أو وقْبِ العين.
لا يمكنني إيقافها.
وذات يوم لن تعود. الأشياءُ ليست هكذا.
إنّها تبقى، وقد جعل التداولُ الكثير ألوانها الطفيفة
تتخذُ ألقًا معيّنًا. تكادُ تموء.
عندما يسري في قدميَّ البرد،
ستمدّني العينُ الزرقاء في خاتمي الياقوتيّ بالراحة.
دعوا لي قُدوري النحاسيّة، دعوا آنيتي الحمراء
تورق من حولي كأزهار ليليّة، بشذاها الطيّب.
إنّهم سيلفّونني بالأضمدة، سيحتفظون بقلبي
في كومة منسَّقة تحت قدميَّ.
بالكاد سأعرفُ نفسي. ستكون ثمّة ظلمة،
وبريق هذه الأشياء الصغيرة أرقُّ من وجه عشتار.

] والاس ستيفنز ] في الطريق إلى البيت
كان هذا عندما قلتُ،
«ليس هناك شيء اسمه الحقيقة»
إنّ حبّات العنب بدت أكثر سمنة.
وانطلق الثعلب من وكره.

وأنت… قلتَ أنتَ،
«هناك حقائق عديدة،
لكنها ليست أجزاءً من حقيقةٍ واحدة»
ثمّ بدأت الشجرة، في الليل، بالتحوّل
في دخان أخضر ودخان أزرق.
كنّا قامتين اثنتين في غابة.
قلنا إننا نقف وحدنا.

كان هذا عندما قلتُ،
«الكلمات ليست أشكالاً لكلمة منفردة.
ففي كمّ الأجزاء، ليست هناك سوى أجزاء.
ينبغي للعالم أن يُقاس بالعين».

كان هذا عندما قلتَ،
«لقد رأت الأوثان كثيراً من الفقر،
من الأفاعي والقمل والذهب،
لكنها لم ترَ الحقيقة».

كان في تلك المرّة، أنّ الصمت
صار أكبر وأطول، أنّ الليل كان على أشدّه
اكتمالاً، أن ضوْع الخريف كان
أشدّ دفئاً، أكثر حميمّية، وأقوى.
المناجاة الأخيرة للخليلة الباطنيّة
النورُ نور المساء الأوّل، كما في غرفةٍ
حيث نرتاح ونفكر، لأسباب صغيرة،
بأنّ العالم المتخيَّل هو العالم المطلق.
لذلك فإنّ هذا، هو أرهف المواعيد توتّراً.
إننا في تلك الفكرة، إنمّا نجمّعُ أنفسنا
ونلمّها من كل لا مبالاتنا، في شيء واحد:

ضمن شيء منفرد، وشاحٍ منفرد
نلتفّ به جيّداً، طالما أننا فقراء، دفءٌ ما،
نورٌ ما، سلطةٌ ما، التأثيرُ المعجز.

هنا، الآن، ننسى بعضنا، وكذلك أنفسنا.
نحسّ بالغموض الذي لنظامٍ ما، لكلِّ ما،
معرفةٍ ما، تلك التي رتبت الميعاد.

ضمن تخومها الحيوّية، في العقل.
نقولُ إن الله والمخيّلة، واحد…
على أيّ علوٍّ تنيرُ الظلامَ تلك الشمعةُ الأعلى.

من هذا الضياء، من العقل المركزيّ،
نصنعُ لنا مأوىً في هواء المساء،
حيثُ كونُنا معاً يكفينا.

] د. هـ. لورنس ] بيانو
بعذوبةٍ، في الغسق، ثمّة امرأةٌ تغنّي لي؛
تُعيدني، عبر مُنْفسح السنوات، إلى الوراء حتّى أرى
طفلاً يجلس تحت البيانو، في دَفْق الأوتار الراعشة
ويلتصق بقدمي أُمّه الصغيرتين، المركوزتين، إذ
تبتسم وهي تغنّي.

ورغم منّي، فإن سلطة الأغنية الغادرة
تخونني، عائدةً بي حتّى ليبكي القلب منّي
لينتمي ثانيةً إلى أماسي الآحاد القديمة في البيت،
والشتاء في الخارج
والمزامير تعلو في الردهة المريحة، والبيانو
الرنّان دليلنا.

لذا، سُدىً ترفع المغنّية عقيرتها بالغناء الحار
مع تشبُّب البيانو الأسود الضخم. إنّ سحر أيّام الطفولة
قد هيمنَ عليّ، وانطرحت رجولتي أرضاً في طوفان
الذكريات، وها أنا أبكي مثل طفلٍ على الماضي.

] أ. ر. إيمونز ]

فاسقاً كان جلجامش
فاسقاً كان جلجامش
يأخذ العذارى ما أن ينضجن
من الرجال الذين يريدهنّ.
للرجال أعطى جلجامش مهمّة بناء الجدران
شوْي الآجر وتنقية القشّ
كتعبير جسديّ
يؤمّن حمايةً أفضل للعذارى
اللواتي يريدهنّ الرجال لساعاتٍ طويلة
في أسرّةٍ تهتزّ
عندما تنهارُ الأسوار أمامَ مَن يدري
أيٍّ من الغزاة
المتربّصين الباحثين عن خمرٍ
وعذارى
عن حقول ٍطويلة من الحنطة
ورماحٍ مغلّفة بالذهب.
لأنّه كان يبحثُ عن مثيلٍ لهُ
في ألوهيّته الجسديّة
أتاحَ جلجامش للكثيرين
أن ينتفعوا من صورة ذلك الغائب
ومضى
هو الفريد في سمُوّه المأساوي.
وأثناء مروره
رأى الرجال الغارقين في الطين والعرق
عذارى يستسلمن لعينيهِ
واستداروا نحو شغلهم حالمين أحلاماً
لن تمنحهم إيّاها أيّة عذراء
بعد أن تسلّقت الجدار
سائراً جيئةً وذهاباً عليهِ
صحتُ بهم:
أيّها الحمقى، أنتمُ يا حمقى
لكنّهم استمرّوا يدلّكون ببطء
عضلات ظهورهم القاسية كالزجاج
ديداناً تكدحُ في الشمس.
سومري
ولدتُ ساكناً للأهوار
معرَّضاً للطــوفانات والريــاح العاصفة
أشربُ ماءً موحلاً في أسفار صيدي الطويلة
أهشُّ سحابات البعوض من مشاتل القصب
أنا الذي عرفت تقلّبات الغرْيَن، والقنوات المتحركة
بسبب الأمطار حين تهطل من مشارفها العالية
والهضاب الناهضة برخاوة وحوشٍ تصعد من الماء:
أسرابُ البطّ والأوزات المحلقة لا تقربني
على الضفاف الجنوبية المالحة
قرب الخليج:
شبكة العنكبوت المتأرجحة
المبسوطة، رطبةٌ، على ممرّات القصب
نشرت رعب الفجر البارد عبر وجهي:
عرفت، أنا أنهض حاملاً حفنة أصداف مكسورة
من القاع الطينيّ المنخول، كم عاليةٌ
هي تلك العتبة التي لا تُطال للسلام، وآجرات المعبد الزرقاء.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى