الفنون تغزو حياتنا بقوة … والجمال ضحيتها

فاروق يوسف

لسنا وحدنا في المعاناة. هناك في الغرب مَن يخشى اتهامه بالجهل والتخلف إن هو أنكر عظمة ما ينجزه الفنانون المعاصرون من أعمال يُقال إنها أعمال فنية. ما يجري حقيقة أن هناك مؤسسات مالية عالمية كبرى صارت من خلال التمويل تدفع بالفن إلى أن لا يكون رديفاً للجمال.
وكما يبدو لي فإن جرساً عملاقاً ينبغي أن يدق بسبب تلك العلاقة المريبة بين المال والفن منذراً بوقوع شيء خطير. فالمال في عالمنا واجهته السياسة وهو يستعملها متى وحيثما يريد حفاظاً على حريته في الحركة، وهي حرية غالباً ما تكون ملغومة. كان الفن عبر عصوره حذراً في التعامل مع المال. يغص تاريخ الفن بحوادث تؤكد الحرج الكبير الذي وقع فيه فنانون ارتضوا أن يعملوا تحت هيمنة أصحاب المال. اليوم استطاع المال أن ينحرف بالفن، ليكون واجهة له. يتناول البعض تلك العلاقة انطلاقاً من مسألة التهرب الضريبي. وهي مسألة فيها الكثير من العبث بالقوانين. وهو ما يفقد الفن قدراً كبيراً من براءته. غير أن الثابت أن المال وبالأخص في عصر الاستثمارات السريعة الذي هو عصرنا لا يحمل البراءة إلى أحد. هناك استثمار خفي في الفن. يمكن للمنسقين أن ينكروا وجود مثل ذلك الاستثمار. فهم ما كان لهم أن يظهروا لولا خبرتهم في شؤون البحث عن جهات مالية داعمة.
أعتقد بأن الربط بين الفنون المعاصرة وفكر ما بعد الحداثة جرى تلفيقه خدمة لمتطلبات السوق. وهي سوق صارت تتسع مع الوقت. في مقابل ذلك الاستشراس الذي تتسم به عروض الفنون المعاصرة فإن قوة الخوف قد ضربت الكثير من المهتمين الحقيقيين بالفنون. ليس من الصعب على مافيات الفنون المعاصرة أن تلقي أحداً ما في الشارع فلا يجد مَن يقرأ أو ينصت، بغض النظر عن مكانته الإبداعية.
لقد تغلغلت تلك المافيات بقوة المال في المشهد الثقافي لتصنع لها حياة مجاورة. حياة هي أكثر حيوية وضراوة من الحياة الثقافية التي صارت من وجهة نظر دعاة الفنون المعاصرة تقليدية وصار سدنتها وصناعها محافظين. من اليسير أن لا يلتفت إليك أحد حين تطالب بنوع من المساءلة في ما يتعلق بديمومة ما يقدمه الفنانون المعاصرون من أعمال. لا شيء منها يبقى. هل ستكون الصور والأفلام بديلاً مناسباً عن الأعمال التي تتم إزالتها ما أن ينتهي زمن عرضها؟
ما يجري في عروض الفنون المعاصرة هو أشيه بحفلة عرس، لا تبقى منها سوى الذكريات. يفضل الكثيرون أن يصمتوا على أن يكونوا موضع اتهام بالرجعية. هناك اليوم في العالم ريح عاصفة اسمها الفنون المعاصرة انحنى الكثيرون أمامها لكي لا تقتلعهم. هي ريح تستمد قوة عصفها من المال الذي صار يبذل بسخاء من أجل استمرارها. وليس أدل على ذلك من قيام متاحف مهمة في لندن مثل «تيت مودرن» و«وايت تشبيل» و«مركز باربيكان للفنون» بالتفرغ بطريقة مغلقة لعروض الفن المعاصر. وهي عروض تناقض في شكل مفضوح ما تخفيه تلك المتاحف من مقتنياتها الفنية التي تنتمي إلى أعظم مراحل الحداثة الفنية.
لا أعتقد بأن الرؤوس التي تدير تلك المتاحف تجهل حقيقة ما يجري. غير أن صمت أصحابها يمكن تفسيره في اتجاهين. اما أن يكونوا متواطئين من أجل تحقيق مكاسب مالية، المتاحف في أمس الحاجة إليها من أجل بقائها أو أنهم خائفون من أن تطيح قوة المال بهم، وهم يعرفون ما لا نعرف من أسرار تلك الظاهرة.
من وجهة نظري وأنا أقف خارج المعترك، في السجال النقدي الذي لا يهتم به دعاة الفنون المعاصرة ورعاتها كثيراً فإن البشرية تخسر وقتاً عزيزاً حين تتخلى عن الجمال مضطرة، من غير أن تكون على ثقة من أن القبح قد قلّ في حياتها. ولا أبالغ إذا ما قلت إن ثقافة القبح هي البديل الممكن الوحيد الذي تقترحه علينا تجارب الفنانين المعاصرين. وقد لا يُلام أولئك الفنانون في مذهبهم وهم الذين نشأوا في حاضنة ثقافية تنكر الجمال. اللوم كله يقع علينا. ولكن مَن نحن؟ الأقلية الصامتة التي ينتظر الكثيرون رأيها من غير أمل. ما من شيء يدعو إلى التفاؤل في أن تلك الأقلية ستقول كلمتها في وقت قريب. فما لا يمكن فهمه أن الفنون المعاصرة التي يفترض فيها أن تكون قوة احتجاج وهدم هي اليوم فنون متبناة من المؤسسات الرسمية. صارت للفنون المعاصرة قوة المؤسسة التي تدافع عن نفسها بشعبوية عطائها.
ما الذي تبقى للجمال؟
أعتقد بأن البشرية وحدها، بحكم حتمية رغبتها في أن تكون أجمل، ستكون قادرة على الدفاع عن نفسها بذريعة نقص استهلاكها الجمالي. لن يتمكن أحد من النقاد أو المهتمين بالفن من التصدي للوحش الذي قرر أن يضع الجمال على الرف.
مثل «ماكدونالد» وقبله «كوكا كولا» غزت الفنون المعاصرة حياة الناس، الشباب منهم خصوصاً. وهو غزو كان الجمال ضحيته الأولى. من الصعب علينا القبول بحقيقة أن حشوداً من الشباب تقبل على العروض التي تقدمها المراكز الفنية الكبرى كل يوم من غير أن يؤدي ذلك الإقبال إلى تطوير ذائقتها الجمالية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى